أمسك بيدي وجرني وراءه, أخذ يكيل النصائح وهو يجري بين الأروقة, تعبت ونهجت ولهثت توقفت بغتة, وقد سحبت يدي.. بلغه الأمر: عم فاروق, توقف والتفت إلي مستفهما ايه يا ولد, يا عم فاروق ميصحكش اخش علي الراجل, وأني بنهج وعرقان, عندك حق تعال نمشي بهدوء الدنيا مش حتطير, كنا بنقول ايه اه... اللواء طوسون مدير الأمن بالشركة الفرنسية اللي بتنفذ خط المترو اهو في عزه لسه إنما طلع معاش مبكر من الداخلية بأختصار سعي عشان تحل محل الوالد المرحوم في نفس وظيفته أنا معنديش شهادة تجنيد لسه, اطمئن هو حيحل كل المشكلات في الورق, حتي الباب, طرقه في رهبة ورفق أدخلني بدفعة حازما يده, لثوان امام المكتب... حتي رفع إلي اللواء عينيه من تحت زجاج شفاف للنظر, في لحظات استعرض وتحسس ما تحت الجلد, وفي العروق, والنظرات اسمع يا بني ان كان عليا موظفكش بثلاثة جنيه لكن لجل ابوك المرحوم الطيب, أنا حوظفك بأعلي أجر أساسي لفرد أمن في الشركة, ومش عايز حد من زمايلك يعرف.. أنت جبت كام في الدبلوم أنا من الأوائل, وكان ممكن أكمل في هندسة حلوان, لانت لهجته: خسارة يا محمد مسئوليتك كبيرة خمس أخوات والوالدة, يا تري حتكون جدع زي ابوك, كان تساؤلا حادا مزعجا لم أرد عليه إلا بكلمة: إن شاء الله كانت كلمته حنشوف علامة علي انتهاء المقابلة, تركته أنه نفس الحديث الكل يتوقع مني أن أكون قدر ما إلقي إلي من أعباء وأنا تائه بين الأشجار العملاقة أين ذلك الرجل في داخلي, أنهم ينتظرون مني أفعالا كبيرة, ارتسمت ليلة العزاء في البلد بالمنيا الأعمام الأحد عشر بزوجاتهم قالوا: انتي صغيرة واولادك صغار أكبرهم محمد لم يتم الثامنة عشرة اختاري أيا منا ليكون زوجا لك ليربي الأولاد, لمت الأفراخ الصغيرة وتشبثت بي من رقبتي وقالت: بعد أبو محمد ليس لي زوج أنا تزوجت أولادي, أدركت وقتها أن الأحلام ضاعت وأن علي الف الف مهمة, علي اطعام الجوعي, وحمل الماء من النبع وحتي... وأي شيء سوي العمل لقد ضاعت فرصتي الأولي في أن أكون مهندسا حين إلتحقت بالثانوي الصناعي, وجاءت صحوة ما وتفوقت كان فخورا بي في زيارته الأخيرة للبلد اعطاني وعدا... اعطاني ثمن أربعة أطقم من الملابس... كيف له أن يفعل... لقد مناني... آه من قال ان الأحلام لا تموت حين يموت العائل, تموت أشياء لتحيا أشياء علي واقع جديد, ولابد من التخلي عن الأحلام, فرد من أمن الشركة, أعمل أثنتي عشرة ساعة أقل من العادي أكل, أقل من العادي إلبس وأنام استنفد أيامي وأجر غدي ورائي, لا استبقي, ولو للحظات بين أظافري مخافة أن اتطلع إليه فأتذكركم اسقي لجمعه, وربما اضن به, أنها مصاريف الأسرة في البلد, فأنا بديل الأب الآن في التاسعة عشرة والعشرين والثانية والعشرين وهلم جرا, في الإجازات اناقش أحلامهم هم.... وأنا البس زي ضابط موقع تحت الأرض يحرس أعمال ومعدات الشركة, يروي من الأعاجيب أن حفارا اختفي, وهم يعملون في الخط الأول... حفار عملاق يطيب لعم فاروق روايته أره, وهو يتعجب.. يشغلني همي, فالدرب في اتجاه واحد, دروس الصغيرة وامتحانات الكبير, طول الخط بين شبرا والجيزة الاف مواقع العمل الصغيرة والكبيرة.. عمل قاس في الصباح بعد سهر الليل البارد تحت الأرض, اتفقد في دوريات مهمات عمل اليوم.. مسامير ربط, معدات لحام, أوناش بقطع غيار عملاقة الاف المنافذ المفتوحة المعرضة للسرقة في أي ساعة.. قسوة العمل تحت الأرض... تم دفنه سريعا جدا.. جاء من القاهرة في عربة إيصال خاصة قيل إلينا أنه مات... مات من الشقاء... أمضي حياته الوظيفية ملازما للشركة الفرنسية التي تبني الخط الأول للمترو ثم ما أن انتهت حتي تبعها مهرولا إلي الخط الثاني... مقسوم لي أن أحل محله.. أكان نذرا ان نعمل في الأرض, بل تحت الأرض لجيلين متتاليين في حفر... وغبار الحفار العملاق... يشق طريقه تحت القاهرة ليلا ونهارا... هل يا تري سوف اعيش لأري الخط الثالث... إذ ربما لحقه أحد أولادي.. أو آه... أنا لم أتزوج بعد ربما احد أخوتي الأصغر هذا التبرم لم يمنعني من الحفاظ علي مورد الرزق الوحيد المتاح لأسرة كبيرة العدد في الصعيد... وهناك دائما أغراء الكسب الحرام, الاف القطع الملقاة بين أظافر الأوناش والحفارات... صلب من أجود الأنواع, تحول صاحبه الحرامي إلي مرحلة الاكتفاء, من قال ان الحرام ينفع, كيف حال ابننا محمد اسمعها من وقت لأخر من اللواء طوسون يسأل عم فاروق رئيس وردية الليل كان يرد: عال العال يا باشا برعايتك ليه... خذ اعطه هذا قل له عيدية الأولاد من عمهم... كانت حوافز وبدلات الشركة جيدة وتسعف الالتزامات الطارئة.. لكنها لم تمكني قط من إدخار عرق يوم يادوب عايش بلا أحلام في غد, هباته لي تسعدني نعم كلماته في السؤال عني تسعدني أكثر نعم حتي لو من وراء حجاب الرئيس والمرءوس انه يتابعني عن بعد, شيء ما بين عم فاروق واللواء يخصني أو يخص والدي الراحل شيء يجعله يثق في ويغدق علي أو أستحق هذه الحوافز والبدلات كلا لو كنت استطيع العيش وأهلي بالراتب الأساسي, حتي ما صرفته الشركة لوالدي كمعاش ومكافأة, ضاع في بالوعة الالتزامات لأطفال دون عائل لهم أو معين, الدنيا تلاه.. الن تقول لي يا عم فاروق لماذا كانت لوالدي تلك المكانة لدي اللواء... ضحك قال: اظنك كبرت الآن سنوات الخبرة حفرت علي ثنايا وجهك آثارا... أنا من زمن صعب... كل الأجداد كذلك ميغركش منظري... أنا جد قديم, وجندي قديم... يا ماخندقت في الحرب علي شط القنال وحفرت الرمل بأيدي, وشلت الظلط بأسناني... لكن العمر والموت مخدنيش... أبوك كان زيي... ياما خدنا كاربيج لهب وقنابل وردمنا خنادق بأموات مرحومين شهدا عشان كدا ابوك اتجوز كبير والموت مطالوش إلا... تمتمت الله يرحمه... يا محمد كتير شفت في عينيك ضغينة للدنيا وللحياة وللأب اللي مات وشيلك المسئولية بدري اتسعت حدقتا عيني باندهاش.... إلي هذا الحد كان يظهر علي.. أيوه كان باين عليك, اللوا قال لي كتير في الأول, مش حيستحمل.. ربك والحق هو أنا كنت بقول زيه... الشغل هنا فحت الفحت... فين رجالة زمان.. قام يستأنف دور المرور علي الرجالة والمنافذ... كانوا في المدرسة الأعدادية يحدثوننا أن أجدادنا هم من فحتوا القناة... كانت الشركة الفرنسية.... تحضرهم من الأرياف هناك ترعة حذا الشام ينبغي شق الرمل والصخر والجبل حتي يمر الماء... رغم المشقة والعذاب حفروها... رغم الصعاب, بلا لوادر حفر, ولا شوكات عملاقة حفروها... من حرك جبل التراب المتخلف عن أعمال حفر الأمس... عبر مترجم سألوا كل العمال... قولوا ليس خطأ من حركه... سنكافئ من حركه بأكبر أجر... هذا عمل خارق لعشرين عاملا في اليوم... لا يمكن ألا تكونوا انتم من حركه... لا يمكن أن تحركه الأشباح حقا اذن وفرتم أجرة نقل تراب أعمال حفر أمس من الشفاط إلي الخارج... حسبت الأيام فوجدتها أعواما مرت, عني لم توجه عبارة أو ملاحظة لكن لكل شيء نهايته المحتومة أفراد الأمن حولي تتطاير, وأنا باق حتي آخر يوم في مشروع شبرا الجيزة.. ابقاني طوسون بجواره حتي الآخر... كان عم فاروق قد فارق الدنيا مثل هذه الأيام, ولغير سبب لازمني سؤال... كان لابد من أجابته.. رغم أنها معروفة... كان لابد لي ان اسمعها منه أو قد نجحت؟! أو قد صمدت لتجربة موت الاب حمل امانة أسرة حتي الشط... كان المرحوم فاروق يحمل عنه عبء الاجابة... طرقت الباب عليه, وقد أفرغ ما بيده من أعمال.. آه محمد تعال أدخل: أنا كمان حسلم عهدتي, وربما لن أعمل مدير أمن الخط الثالث, فاجأني بغته: أنت من حرك جبل تراب الشفاط للخارج منذ العام, لم أستطع الانكار, كان يمكن أن تأخذ اجرا كبيرا علي نقلك كل هذا الكم, لقد اخذت كفايتي, لقد علمت أنني استطيع, جمده رد الصمت لبرهة: آه الآن فهمت, لم يكن يقف لأحد لكنه فعلها, لانت قسمات وجهه فجأة وهو يصافحني بحرارة الدماء المتدفقة من عطاء قلبه, مازلت أشعر بحراره يده. أحمد محمد عبده جلبي