مازلنا في حاجة إلي أن يسمع بعضنا بعضا, أن نتواصل أكثر ونمزق شرنقة العزلة عن الآخرين, أن ننتبه لصيحات المظلومين والمكلومين, أن نتكاتف للقضاء علي جراثيم الفساد التي استباحت جسد الوطن المنهك, أن نستمع لكل التحذيرات لعلنا ننجو من السقوط. ألا ننصرف عن المؤذن عندما يدعو إلي الصلاة, أن نلبي نداء الواجب. مازلنا في بداية الطريق. ثلاث سنوات مضت علي سقوط النظام. لم ننهض بعد من كبوة طال أمدها. لا يكفي التمرد علي الواقع, ورفض الحلول المطروحة, بل يجب علي كل منا أن يدلي بدلوه في اقتراح طرق الإصلاح. الجسد العاري يحتاج إلي من يستره, من يرتق ثيابه التي مزقها الفاسدون والمفسدون, فالثوب عامر بالثقوب. وجع قلب الوطن ليس في حاجة إلي مسكنات, بل لعلاج ناجع ولو ببتر بعض الأطراف. يحتاج إلي قرارات حاسمة لاقتلاع الداء الوبيل الذي تمكن من أوصال المجتمع الفساد الذي سلخ الجلد وأكل اللحم ونخر العظام. ليس أمامنا اختيارات بديلة, فالجسد المريض لا يقوي علي السير, ولن نتحرك إلي الأمام إلا باستئصال شأفة الفساد حتي يشفي جسد الأمة, فالعقل السليم في الجسم السليم. وعقل مصر معلق بوزارتين كبيرتين هما وزارتا التعليم العالي والتربية والتعليم, هاتان الوزارتان أصابهما ما أصاب الجسد المصري من وباء الفساد. في أغسطس الماضي نشرت تقريرين في مجلة الأهرام العربي عن الفساد المالي والإداري في الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا ببرج العرب بالإسكندرية, والمخالفات التي ارتكبها رئيس الجامعة وقتها الدكتور أحمد بهاء الدين خيري موثقا بالمستندات من واقع تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية, إيمانا مني بضرورة علاج الأورام السرطانية في هذه المؤسسة العلمية المهمة, حرصا علي مستقبل طلابها, ودفاعا عن المال العام المستباح فيها. مر التقريران مرور الكرام وكأن ما نشرته حفنة من تراب ألقيت في الهواء فلم ينتبه لها أحد, ألححت بتذكير المسئولين بمقال ثالث, ولقي نفس المصير لم أفقد الأمل وإن شعرت ببعض الإحباط. شابة سكندرية تدعي ملكة الظاهر كانت تعمل في الجامعة المصرية اليابانية وتم إنهاء تعاقدها بعد النشر بشهر اعتقادا من رئيس الجامعة أنها وراء تسريب المستندات لم أكن أعرفها, ولا التقيتها من قبل, شاركتني الإحساس بالمسئولية بعد قراءة ما نشر, وبادرت بطلب مقابلة الدكتور حسام عيسي نائب رئيس الوزراء وزير التعليم العالي وعرضت عليه عددي المجلة. استغرق الأمر أكثر من شهرين للاستجابة لطلبها بسبب مشاغل الوزير الذي حاصرته مظاهرات الطلبة من اليوم الأول لتوليه مسئولية الوزارة, مكتب الوزير لم يكتف بالتقصير في عدم عرض الموضوعات المنشورة عليه, ولكنه أسهم في تأجيل استماعه لصوت الحق الذي تمثله الشابة الغيورة علي جامعتها. بعد3 أيام فقط قرر الدكتور حسام عيسي وقف رئيس الجامعة عن العمل, وبعدها بخمسة أيام قبل استقالته ونبه علي العاملين بالجامعة بمنعه من دخول أي منشأة من منشآت الجامعة, ليس هذا فقط ولكنه حل مجلس أمناء الجامعة الذي انتهت مدته وفقا للقانون. مازالت الجامعة في طور النقاهة بعد تعيين رئيس جديد لها, ولكنها تخلصت من داء عضال كاد يفتك بها, وتجدد الأمل في اضطلاعها بدورها في تثقيف وتعليم الطلاب في جو أكثر نقاء. صفقت للدكتور حسام عيسي الذي لم ألتقه أبدا, هذا صنف الرجال الذي نحتاجه في هذه المرحلة الحساسة, جراح ماهر قادرعلي استئصال الوجع في وقت قياسي. الأمل معقود بنواصي الرجال. في المقابل, كتبت عشرات المقالات عن مخالفات وتجاوزات مالية وإدارية وما يعد في نظر القانون جرائم استيلاء علي المال العام وتسهيل الاستيلاء عليه في وزارة التربية والتعليم, ذكرت فيها أشخاصا ووقائع بالاسم والوظيفة وتوقيت ارتكاب المخالفة, أشرت إلي الكثير من نقاط الفساد في الوزراة, في الديوان وفي المديريات والإدارات والمدارس. تجاوزات تتعلق بمخالفة القوانين واللوائح في ترسية المناقصات والتعاقدات, وإسناد الأعمال بالأمر المباشر, وتزوير في محررات رسمية, وتستر علي وقائع فساد صريحة, وتسريب امتحانات, وتربح, وإساءة استخدام السلطة, عن مدارس تحولت إلي منتديات للتعارف وتكوين الصداقات بدلا من تعليم الجيل الجديد معاني الانتماء للوطن, عن مافيا الدروس الخصوصية التي باتت تشكل خطرا علي الاقتصاد القومي, عن ازدواج الصرف علي كتب الوزارة والكتب الخارجية. تناولت كل أوجاع الوزارة التي تحولت إلي صداع دائم في رؤوس كل المصريين, فلم أتلق جوابا من الوزارة, لا من الوزير الدكتور محمود أبو النصر ولا من مديري المديريات التعليمية ولا من مديري الإدارات والمدارس. من ناحيتي لا يضرني تجاهل ما كتبت, ولست حريصا علي رد مكتوب من المسئولين, فقد أديت عملي, وصرخت بأعلي ما في حنجرتي من صوت من أجل الإصلاح, وكان يكفيني أن أجد عملا علي الأرض أو استجابة برفع الظلم عن معلم ضاعت حقوقه, أو رد مال عام تم الاستيلاء عليه في ظروف غامضة. مازلت مستعدا لرفع القبعة لكل مسئول في أي وزارة يستجيب لما تنشره الصحف أو تثيره وسائل الإعلام من مشكلات حقيقية بقلم أي زميل, ولا أشترط أن يتم ذلك مع ما أنشره شخصيا. كم كنت أتمني أن تحدث استجابة واحدة في وزارة التربية والتعليم بتحويل مسئول واحد إلي التحقيق أو المحاكمة التأديبية أو النيابة العامة أو الإدارية, وأن يتم هذا بشكل علني شفاف حتي يكون هذا رادعا لغيره, أو أن يوقف فاسد واحد عن العمل لحين انتهاء التحقيقات معه حتي تتجنب الوزارة إهدار المزيد من المال العام. أما أن يستمر المسئول في منصبه رغم ما أثير ويثار حوله من شبهات, ورغم ما ينشر عنه من مخالفات مدعومة بالمستندات فهذا يشير إلي أن الفساد متمكن من مفاصل الوزارة, ويحتاج إلي تدخل جراحي سريع. وإذا لم يتدخل الوزير لإزالة تلك الأورام فمن يتدخل؟ لسنا مستعدين للنهوض بلا عقل, وعقول أبنائنا تتعرض للتجريف بسبب الفساد في وزارة التربية والتعليم الفساد الذي طال كل هيئات الوزارة من أبنية تعليمية وجهاز كتب وغيرهما. نحتاج إلي وزارة صحيحة البدن تؤهل أبناءنا للدراسة الجامعية علي أسس علمية, ولا تسلم الجامعة طلابا بالكاد يكتبون أسمائهم, ويرتكبون أخطاء إملائية. نحتاج إلي مشرط جراح يخلصنا من فساد معتق منذ أكثر من ثلاثين عاما في وزارة لن ننطلق إلا بصلاحها. نحتاج إلي ستر الأمة بثوب العلم والتكنولوجيا. لم نعد في حاجة لمزيد من المسكنات بعد الآن.