نستطيع أن نحكم بكل صدق على تمدّن وحضارة الشعوب من خلال احترامها و تقديرها لقيمة العدل، التى أول ما عُرفت وتطورت، كانت على أرض مصر الفرعونية، حيث كان للقيم الأخلاقية والتقاليد والأعراف المتوارثة، بالغ الأثر، فى تعميق هذه القيمة. فقد نشأت في مصر أعظم حضارة شهدها التاريخ منذ المهد وحتى الآن لم يشهد العالم مثيلا لها، دامت ما يقرب من أربعة آلاف سنة وحتى بداية عصر البطالمة، وظلت قيمة العدل فيها سمة أساسية، بين الحاكم والمحكوم. ولا يمكن لحضارة أمة أن تقاوم عثرات وكبوات الزمن وتظل قائمة عبر الزمن، إلا إذا كانت قواعد هذه الحضارة مبنية على أساس العدل الذي يكفل للجميع، سواء كانوا مصريين أوغير مصريين، مقيمين على أرض مصر، المساواة وحق الحياة بحرية وكرامة. هذه هى مصر التى أنبتت من طينها ابنا يلقب ب"الفلاح الفصيح"، الذى خاطب فرعون مصر فى مظلمة وقعت عليه فلم يجد فى نفسه حرجا أو خوفا أو فقدا للأمل، فى استجابة لمظلمته واستعادة حقه المسلوب، كما أن تصميمه على مخاطبة الحاكم أكثر من مرة، دليل واضح على يقين هذا الفلاح بأن حقه لن يضيع، فهو يعيش على أرض العدل وحاكمها عدل ولم تكن عدم استجابة الحاكم لمظلمة الفلاح من المرة الأولى إهمالا أو عدم تقدير لحقوق ومظالم الناس، وإنما إعجاب الحاكم بتعبير وبلاغة خطاب الفلاح، ما أدهشه فأراد أن يستزيد من جمال وروعة وبلاغة العبارات، التى وردت بخطابات هذا الفلاح الذى خلده التاريخ. مصر الحضارة التى كانت قبلة العالم وحلم كل إنسان أن يعيش على أرضها الرحيمة التى لم تغلق أبوابها أمام محتاج أو طالب علم، وليس هناك أعظم ما يدلل على ذلك، إلا قوله تعالى ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) فلا أمن لأى إنسان فى بلد لا يعرف قيمة العدل وكيفية ممارسته وتطبيقه فى كل نواحى الحياة. وتحضرني الآن قصة سيدنا موسى مع فرعون مصر، ودعونى ألقى ضوء على جزء منها، فعندما سقط سحرة فرعون ساجدين لمعجزة الله التى وهبها موسى عليه السلام، قال لهم فرعون: " آمنتم له قبل أن آذن لكم لأقطعكن أيديكم وأرجلكم من خلاف".. وهذا يؤكد أن فرعون لم يجد سببا وحجة ليعذبهم إلا أنهم آمنوا برب موسى قبل أن يسمح لهم. وهنا استدلال مهم علي أن حرية المرء فى الاعتقاد كانت مكفولة لكل المصريين، ولذلك لم يستند إليها كحجة لتعذيبهم، ويجب أن نلاحظ أيضا أننى أتحدث عن فرعون، وهو من ظلم وطغى فى الأرض، وقسم أهلها شيعا، وعلى الرغم من ذلك لم يستطع أن يقمع أى مصرى، لاعتقاده أن هذه هى مصر التى نبحث عنها.. مصر العدل والمساواة.