في الثالث والعشرين من يوليو الجاري يحتفل التليفزيون المصري بيوبيله الذهبي, أي عيد ميلاده الخمسين, في رحلة طويلة تختلف فيها البدايات عن الحاضر اختلافا كبيرا وجوهريا. وبعيدا عن اللجنة التي شكلها وزير الإعلام للاحتفال بهذه المناسبة كما ينبغي لها ان تكون, فإن العيد الخمسين للتليفزيون المصري مناسبة تستحق الاحتفال, والتأمل والدراسة, ليست للمقارنة بين ريادة الماضي, ومنافسة الحاضر, وإنما من أجل استشراف صورة هذه المؤسسة العريقة في المستقبل. 23 يوليو1960 هو اليوم الذي بدأ فيه إرسال التليفزيون المصري, بعبارة شهيرة التليفزيون العربي من القاهرة, كانت القاهرة عاصمة العروبة, وكل ما يخرج منها لا يوجه لشعبها فقط, وإنما للعالم العربي بأكمله, وقد عرفت القيادة السياسية لمصر في الستينيات الأهمية المبكرة للإعلام, ليس فقط في الترويج لثورة23 يوليو1952 ومبادئها في مصر, وإنما لترويج مشروع مصر التحرري في العالم العربي والعالم الثالث. لم يكن الإرسال التليفزيوني حالة خاصة, وإنما جزء من منظومة إعلامية تشمل إذاعة صوت العرب الموجهة لكل العرب, والإذاعات الموجهة التي كانت تبث من القاهرة بمعظم لغات العالم تقريبا, لمساعدة شعوب العالم الثالث الساعية للتخلص من الاستعمار القديم. تحرر العالم كله تقريبا باستثناء فلسطين, وصار لكل قطر عربي إذاعاته ومحطاته التليفزيونية لكن ظل للتليفزيون المصري, وللفضائية المصرية التي خرجت أيام حرب الخليج الثانية وجودا مميزا ومؤثرا في المنطقة العربية, حتي بدأ زحام الفضائيات العربية والمصرية الحكومية والخاصة. لم تعد السماء حكرا علي أحد, ولم يعد الفضاء ملكا لدولة حتي ولو كانت بحجم مصر, وتزاحمت المحطات لتصل إلي أكثر من خمسمائة محطة تليفزيونية ناطقة بالعربية, منها ما يصدر عن دول غير عربية موجهة للمنطقة العربية مثل الحرة الأمريكية, وبي بي سي الإنجليزية, وفرنسا24 الفرنسية, إضافة إلي قنوات روسية وكورية وصينية وألمانية وإيطالية.. وحتي تركية وإيرانية. وفي ظل هذه الهجمة الشرسة علي الفضاء العربي, وفي محاولة للوصل إلي كل من ينطق بالعربية في أي مكان في العالم, لم تعد الريادة كلمة متاحة أو قابلة للتداول, وإنما حل محلها مصطلح المنافسة الذي يفرض نفسه بقوة, وسط عالم تتساقط فيه الحدود, وتكاد تختفي فيه جميع أشكال الرقابة والتدخل الحكومي المباشر. في ظل هذه المنافسة الشرسة يبدو التليفزيون المصري في مرحلة جديدة, فهو من ناحية مملوك للدول, يمول من أموال دافعي الضرائب, مما يعني أن يكون معبرا عنهم وعن احتياجاتهم, وهو في نفس الوقت أهم أدوات القوة الناعمة للدولة مثل الثقافة والفن وحتي الرياضة, التي يفترض أن تجد عبر الشاشات الرسمية متنفسا لها للخروج والانتشار. وصحيح أن التليفزيون لم يتوقف عن التطور خلال السنوات الخمس الماضية, من حيث الشكل والمضمون, وإطلاق قنوات جديدة, لكن يبقي علي القائمين علي أمره صياغة رؤية واضحة للمستقبل, ترتكز في الأساس علي تحديد الجمهور المستهدف, والمدي الجغرافي الذي سينتشر فيه التليفزيون المصري, ومن ثم ترجمتها في مجموعة من القنوات والبرامج تعبر عن هذه الأفكار. وقد يكون نتيجة لذلك إعادة النظر في عدد القنوات التليفزيونية التي يبثها التليفزيون المصري, سواء في شبكته الأساسية, أو في شبكة قنوات النيل, ومن ثم تحديد مناطق القوة التي يمكن أن ننافس فيها, داخليا وخارجيا.. هل هي الدراما.. أم الأخبار.. أم المنوعات.. أم حتي عبر القنوات العامة؟ وليس لدي شك أن كل هذه الأسئلة لا بد وأنها علي جدول أعمال وزير الإعلام أنس الفقي, الذي يعمل جاهدا علي الاستفادة من كل الإمكانات المادية والبشرية, وحتي الريادة التاريخية في وضع التليفزيون المصري في مكانه الصحيح, ليس كما كان قبل خمسين عاما.. ولكن وفقا للوضع الحالي, وآليات المنافسة الجديدة والمتجددة.