لا أظن أن أحدا يريد دليلا علي تآكل عنصر الثقة بين الأفراد والمؤسسات في مجتمعنا, فأعراض المرض واضحة علي كل المستويات, وعلامات التراجع تبدو جلية في العلاقات التي تبني بكاملها علي عصر الثقة مثل علاقة الطبيب مع مريضه والمحاسب مع عميله, والمحامي مع موكله, أي في كل العلاقات المهنية.وعلامات التآكل تزداد مع شيوع الشك لدي الناس حول صدق المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يتعاملون معها, فالثقة تتداعي عندما يشك المستهلك في المنتج والبائع, وعندما يشك المؤمن في رجل الدين وأيضا عندما يرتاب المواطن في الحكومة والمعارضة علي نحو سواء فلا يصدق أي منهما. وبصفة عامة فإن للثقة نوعين, النوع الأول هو الثقة الخاصة وهو الشائع في وعينا التقليدي, فإن تثق بشخص ما في اللغة العربية يعني أن تأمن له وتصدقه وتعاهده وتربط به نفسك, ومن ثم يساعدك علي درء الخطر الغامض والداهم الذي يتهددك. ومثل هذا النوع يبني علي الثقة بمن تعرفهم من الآخرين كنتاج للعلاقات الاجتماعية المباشرة, وهي لذلك تكون في أوضح صورها في المجتمعات الريفية والقبلية. أما النوع الأخر فهو الثقة الاجتماعية التي تتعلق بمؤسسات المجتمع وأشخاصه الذين لا تعرفهم, والثقة في هذا الإطار تعني الحفاظ علي العهود والوعود مع من لا نعرفهم. ومفهوم الثقة الاجتماعية بهذا المعني مفهوم حديث لم يكن واردا ولا موجودا في المجتمعات التقليدية, وإنما دخل القاموس الفلسفي والسياسي في أوروبا في منتصف القرن السابع عشر في نفس الفترة التي ظهرت في نظرية الاحتمالات في الرياضيات ونظرية الإنسان العقلاني والعقلانية في الفلسفة. كما أنه يرتبط بشكل خاص بما أحدثه علماء الدين الغربيون في تغيير الشكل التقليدي للإيمان الديني الذي أدي إلي التحول نحو الأدلة الثبوتية المؤيدة للإيمان بدلا من الإيمان الغامض. وقد أدت هذه التحولات والتطورات في مجالات العلم والفلسفة والدين إلي تغير مفهوم الخطر الذي لم يصبح مرعبا بقدر ما أصبح تحديا تتم مواجهته' بالثقة'. ومن ثم يكون مفهوم الثقة الاجتماعية أحد القيم الأخلاقيةالحديثة التي نشأت مع التحولات السلوكية المصاحبة لولادة المجتمع الحديث و الحداثة, وهذه الثقة الاجتماعية هي التي بني عليها مفهوم المجتمع العام والخير العام. مثل هذه الثقة الاجتماعية ونتائجها لم تكن موجودة في ثقافتنا العربية التقليدية, ففي الأدبيات العربية تجد الحديث عن الثقة في الله والثقة بالنفس ولكنك لا تجد الثقة بمن لا تعرفهم أو الثقة في المجتمع العام أو المؤسسات. ومن ثم يأتي السؤال وكيف يدرأ الفرد عن نفسه الخطر ؟ والإجابة في مجتمعنا وثقافتنا الدينية هي في مفهوم' الالتزام'. فالمؤمن الملتزم يدرأ الخطر عن نفسه بالتشابه والتماثل مع النموذج الديني السائد والتشابه والتماثل هنا يكون بالمظهر وطريقة التفكير. وعندي أن أزمة الثقة الحادة التي نمر بها ليست أزمة في مفهوم الثقة بشكل عام, وإنما هي أزمة في مفهوم الثقة الاجتماعية كمفهوم حديث, فمشروع الحداثة العربي كان بسبيله لإنجاز الثقة الاجتماعية في طبعتها العربية, لكن الحرب علي الحداثة ومنجزاتها والتي أدت إلي اهتزاز النسق القيمي والأخلاقي الذي صاحب مشروع الحداثة, تلك الحرب ضعضعت ما تراكم من خبرة المجتمع من الثقة الاجتماعية, والأسوأ أنها تحاول أن تجر المجتمع إلي الشكل التقليدي من العلاقات الاجتماعية التي تجاوزها التاريخ بشكل لا يمكن أن تتحقق معه الثقافة التقليدية إلا كمسخ مشوه, وهو ما نشاهده الآن من تمدد لظاهرة استدعاء مظاهر الالتزام الديني والاجتماعي الطقوسية منها والشكلية بشكل كاسح كتعبير عن الأزمة. ولأن الثقة الاجتماعية لا يمكن أن تقوم إلا إذا توافق المجتمع علي نسق من القيم الأخلاقية العليا التي تحمي الحريات الشخصية والعامة وتحفظ الأمن والاتساق للمجتمع, فإن الخروج من أزمة الثقة ينبغي أن ينطلق من الدفع المستمر في اتجاه تبني أخلاق الحداثة في نسختها المحلية في مؤسساتنا التعليمية والإعلامية دون الدخول مع المتشككين في متاهة التغريب والتعريب.