حقا لم نكن نقصد انتهاك حرمة الموتي بتحقيقنا الذي يدور حول بيزنس الوفاة الذي يسير بسياسة المثل الشعبي القائل مصائب قوم عند قوم فوائد ولكننا قصدنا كشف ستار هذا العالم المظلم قشعريرة غريبة سرت في جسدي للمرة الأولي تجاه رائحة المسك وماء الورد التي اختنقت بها محال الحانوت ورجفة خوف من تلك التفاصيل المكفنة بأقمشة البفتة رغم أنني علي يقين أن الموت حق علي الجميع, ولكن مع مرور الدقائق اعتدت علي رائحة المسك وصوت الحانوتي الأجش المكتوم وبدأت تفاصيل عمال رحلة العالم الآخر أكثر اثارة وتشويقا حينما تحول المثل من مصائب قوم الي الموت مقامات... الأهرام المسائي حصل علي فواتير الوفاة في تحقيقنا التالي: أكدت دراسة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن حجم الانفاق السنوي علي مراسم العزاء من اقامة السرادقات الفخمة وأجور المقرئين ونشر التعازي في الصحف ومصروفات الجنازة يصل الي مليارين و250 مليون جنيه سنويا. يأتي هذا رغم الاحصائيات التي تؤكد أن48% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر. كما توضح الدراسة أن مليارا و250 مليون جنيه تنفق علي السرادقات وحدها. ومليارا علي الاعلانات والنشرات بالجرائد اليومية. وفي تقرير آخر لجهاز التعبئة والاحصاء بمصر كشف عن بعد آخر في القضية, وهو أن المبالغ التي ينفقها المصريون علي العزاء تزيد علي ماينفقونه في الأفراح. خاصة أن فاتورة العزاء ترفعها الاعلانات التي يتم نشرها بالجرائد والتي يتراوح سعر الصفحة بها بين150 و200 ألف جنيه. ومع تزايد الحرص علي اقامة عزاء يليق بالأسرة فان سوق مستلزمات العزاء تغيرت ملامحها عن ذي قبل. حيث ارتفعت تكاليفها وأضيفت لها مفردات جديدة لزوم الوجاهة الاجتماعية. فأسعار حجز قاعة العزاء بالمساجد تصل الي500 جنيه. أما في المساجد الكبري فتصل الي3 آلاف جنيه. هذا غير أجر المقرئ. أما الفراشة التي تتم اقامة السرادقات بها فقد شهدت هي الأخري تقاليع غريبة بعد أن امتلأت بأفخم أنواع السجاد والنجف والكراسي. ولكن الأكثر غرابة هو أسعار المقابر وطرز بنائها, فنجد أن سعر المقبرة الواحدة وصل الي100 ألف جنيه, وهو السعر الذي يعادل سعر شقة متوسطة في القاهرة. اذن فالموت تجارة مربحة جدا عند البعض.. وهناك من يقف في انتظار خبر وفاة أحدهم حتي يجد قوت يومه الذي يختلف حسب مكانة وبيئة الميت. الموت.. مجانا الشيخ رمزي.. هكذا يشتهر بين أبناء منطقته الشعبية البسيطة دار السلام وهو أيضا امام جامع الشهيد الذي لم يبد أي اعتراض علي أسئلتنا المنهالة فأجابنا عن بيزنس الموت وفاتورة الوفاة بابتسامة هادئة قائلا: ان وجوه الناس وهيئتهم توضح جيدا كم تبلغ تكلفة الوفاة في حي مثل حي دار السلام وكل الأحياء الشعبية, وهناك عدد كبير من المساجد توفر الأكفان والخشبة والسيارة بأسعار زهيدة جدا في المناطق الشعبية وقد تصل للمجان في بعض الحالات التي لايستطيع فيها ذوو المتوفي تحمل هذه التكاليف حتي ان المغسل في هذه الحالات يرفض أن يأخذ مصنعيته ان جاز التعبير ويكتفي فقط بدفع تكاليف القطن والمسك وبقية أدواته. عشرون جنيها لسيارة دفن الموتي, وعشرون أخري للمغسل, وعشرة لسائق السيارة, وخمسون لقماش الكفن الذي عادة مايكون من البفتة هي تكاليف القادرين في الأحياء الشعبية كما يقول الشيخ رمزي وأجرة سائق السيارة حسب بعد المقابر, ويضيف أن المقرئ لا يتعدي مايتقاضاه كذلك العشرين جنيها بالمقابر, ولكن الوحيد الذي يزيد أجره كل هذا مهما اختلفت الحالة الاجتماعية للمتوفي هو التربي فلايقل أجره عن مائة وخمسين جنيها لفتح التربة والدفن, وفي حال عمل صوان عزاء, وهذه حالات نادرة جدا في الأحياء الشعبية, فلاتتجاوز فاتورة المقرئ والفراشة ومعدي القهوة الثلاثمائة جنيه. ويضيف الشيخ رمزي أن كل السابقين من عمال الموت غالبا ما لايتقاضون أجرا لأنهم يكونون في معظم الأحيان جيران المتوفي وذويه عدا التربي وعمال العزاء. حبة فوق وحبة تحت أما الموت الهاي كلاس في مصر قتتكلف مراسم العزاء والسرادق في جامع عمر مكرم مثلا أو مصطفي محمود50000 جنيه, بينما تتكلف الكراسي الجلدية فقط5000 جنيه لليلة الواحدة. تشطيب لوكس وتأتي أيضا اعلانات الصحف ومواقع الانترنت بمزيد من الغرابة. فأحد الاعلانات يقول: لدينا مقابر تشطيب سوبر لوكس.. تبدأ من أربعين مترا الي120 مترا.. سعر المتر الواحد1200 جنيه.. وبطريقة تشبه اعلانات الأجهزة الكهربائية في القنوات الفضائية, وضعت بالاعلان عبارة مضللة لتلفت الانتباه تقول اشتري فورا واحصل علي عرض مميز.. حديقة لاستقبال المعزيين واقامة الأربعين والسنوية أمام المدافن. فحت وردم وعلي النقيض تماما نري في مقابر الخبيري و الدلاشة بقري البحيرة أن الموت هو فقط عملية فحت وردم حيث وفرت الحكومة في فترة الثمانينيات قطع أراض للفلاحين لدفن ذويهم بها, فما كان عليهم سوي أن يقوموا باستخراج تصريح الدفن والحفر لعمق مترين وردم التراب مرة أخري بعد الدفن.. ونظرا لضيق المساحات بهذه المقابر, أقامت كل أسرة علي رأس أرضها الزراعية نصف حجرة اسمنتية مقسومة عين رجالي و عين حريمي لتكون مدفنا للعائلة. أما في مقابر الامام ففتح العين لأي متوفي يتكلف500 جنيه, أما اذا أراد أهل المتوفي شراء حجرة دائمة للعائلة فتتكلف حوالي40 ألف جنيه. الحانوت ايجار سيارات نقل موتي لجميع المحافظات داخل وخارج البلاد.. هكذا تجد لافتة محل الحانوت أحمد توفيق عبدالرازق حانوتي المنيرة وقصر العيني الذي قد يكون أحد شخصيات موسوعة جينيس للأرقام القياسية لكونه واحدا من عشرة أو أقل في مهنته بمصر. رائحة المسك وماء الورد هي العلامة المميزة لمحله بقصر العيني والذي يعج بالأكفان ولوازم الخارجة كما يقول اللفظ الدارج.. استقبلنا أحمد علي بوابة محله باللفظ الشهير للحانوتي البقاء لله وقد نكون تسببنا في احباطه بعض الشيء حين علم بأننا صحفيون, فبدأ حديثه قائلا: المهنة بقت مفتوحة لكل من هب ودب. أحمد شن هجوما شديدا علي الجمعيات الشرعية التي انتشرت في مصر قائلا انها حولت الموت حقا لبيزنس, فهم يستأجرون سيارات تكريم الموتي ويغالون في أسعارها وأسعار الخارجة علي ذوي المتوفين, ولكن مع انتشارها الواسع في كل أنحاء مصر لم يبق في أيدينا سوي أن نستسلم للأمر الواقع. وعن فاتورة الوفاة يقول أحمد ان أغلب محال الحانوت أصبحت تعتمد علي تأجير مستلزمات المتوفي للجمعيات الشرعية ولكن هذا لم يمنع أنه في بعض حالات الوفاة تهتم الأسر بالتوجه للحانوت لعمل اللازم مع المتوفي خصوصا في المناطق الراقية لقدرتهم المالية وفي الصعيد بسبب العادات والتقاليد. ويضيف أحمد أن أسعار السيارات وصلت في بعض المحافظات الي خمسمائة جنيه بسبب الجمعيات الشرعية وتأجيرها لسيارات الحانوت كما أن بعض أهال المتوفين يشترطون نوعا معينا من القماش للثلاث لفائف الخاصة بالكفن مثل الصوف والذي تتعدي تكلفته الألف جنيه والستان الخاص بالسيدات والذي يصل الي100 جنيه للفة الواحدة, والشهية الذي يصل الي900 جنيه, وهو القماش الملون, وهذه هي أسعار الجمعيات بعد أن تشتري من الحانوت بنصف الثمن. جديد في جديد ويضيف أحمد أن بعض ذوي المتوفين يشترطون أن تكون العدة جديدة ولم يتم استعمالها من قبل بل والا تستعمل بعد ذلك فيقومون بشراء خشبة جديدة بحوالي1000 جنيه وطاقم غطاء للخشبة بحوالي400 جنيه وهي التي تستأجر عادة من الحانوت بحوالي60 جنيها, وكذلك يشترط البعض علي المغسل شراء دكة جديدة للتغسيل بحوالي100 جنيه وهي التي تستأجر بحوالي20 جنيها. تقاليع وعن التقاليع يقول أحمد إن البعض بدأ يخترع تقاليع غريبة لاتمت للشرع أو للدين بصلة, فهناك من يرفض أن يقوم المغسل بوضع أي نوع من البخور ويشترون أنواعا فاخرة وباهظة الثمن قد تصل أسعارها الي500 جنيه للكيلو الواحد, وتستخدم لنصف ساعة فقط أو أقل أثناء التغسيل, وكذلك يرفضون وضع المسك وماء الورد بدعوي أنهم اشتروا بارفان بالشيء الفلاني مابين150 و200 جنيه, مضيفا أن بعض التربية يغالون في مثل هذه الحالات بمجرد أن يروا شكل الخشبة فيصل بسعر الدفن الي الف جنيه في بعض الحالات. ويقول أحمد ان أحدث التقاليع هي تلك التي تحدث بعد الوفاة بسبب الجمعيات الشرعية التي بدأت تنشأ دور المناسبات والتي تشترط أسماء معينة من المقرئين المعتمدين من الاذاعة( للحفاظ علي سمعة دار المناسبات وقد تتكلف الليلة حوالي8 آلاف جنيه باحدي هذه الدور, بينما في المناطق الشعبية لاتتعدي الألف جنيه في أفضل الحالات وأكثرها حظا ويسرا. أخذنا كلام أحمد توفيق وذهبنا به للأستاذ عبدالباري حسن عبدالقادر رئيس مجلس ادارة جمعية خيرات الايمان وهي جمعية شهيرة ولها نشاطات كثيرة فيما يخص توفير الأكفان وسيارات نقل الموتي وكذلك قاعات العزاء فقال لنا: هذه الأرقام الفلكية لاتكون الا في المناطق الفايف ستارز في مصر الجديدة والمهندسين أو في جامع عمر مكرم, فمادام أهل المتوفي قادرين علي دفع الآلاف كنوع من التفاخر فما المانع, ومادامت لديهم امكانية احضار الطبلاوي فما العيب؟ فالمثل يقول الموت مقامات فالفقراء لهم مدافن والأغنياء لهم مدافن أخري, لكن في النهاية الجميع يذهب للتراب والقادر علي تحمل نفقات الموت الباهظة هو صاحب الشركات أو رجال الأعمال الذين لايعتبرون ميتهم انتقل الي رحمة الله الا اذا نشر له نعي بآلاف الجنيهات في الصحف الكبري خاصة الأهرام. ومع هذه الكلمات ودعنا عمال الموت وودعنا هذا العالم الذي يبدأ نبضه بتوقف نبضات قلب أحد البشر, وكان التعبير الوحيد الذي خرجنا به من هذه التقاليع والأحداث والروائح والأكفان هو أنه الموت مقامات.