اسمرا عاصمة الدولة الاريترية مدينة مميزة تحتفل كل لحظة بتاريخ ميلادها الجديد, ثوبها ارجواني ممزوج بتبر التربة المحمرة, جيدها مطوق بقلائد الرصاص كفاها مخضبتان بوشم المعارك شعرها معجون برائحة البارود زرتها في عشية احتفالات استقلالها..همست لي باسرارها الاسطورية بعد ثلاثين عاما من النضال في حرب ضروس كتب لها ان توثق رسميا وامام المحافل الدولية, بأنها شرعا القلب النابض للدولة الارترية, فعمدت في الرابع والعشرين من مايو1991 عاصمة لاحدث دولة عرفتها القارة الافريقية. اسمرا...مدينة تصيبك بالدهشة,فاسمها خفيف ظريف, تنطقه وكأنك تشدو اغنية غزلية في حسناء ابنوسية القد, تجتاز شارع الحرية في اسمرا, فتشعر بأنك تزور مدينة في منتصف القرن ذات طراز ايطالي كلاسيكي, تذكرك بنمط معماري لمدن مستعمرات ماوراء البحار, وهي ترتفع2400 متر عن سطح البحر. في يومها اربعة فصول,وذلك لتقلب مناخها الذي لاتزيد الحرارة فيه صيفا علي17 درجة مئوية,فصيفها ماطر وشتاؤها شديد البرودة وحلاوة وبرودة صيفها يثلجان الصدر في وقت تصبح فيه معظم دول القارة الافريقية في هذا الوقت من السنة, في حر وقيض بغيض. خطوط التاريخ التاريخ يرسم خطوطا لحكاية أي مدينة وتاريخ اسمرا متخم بالاحداث, مرت عليها جحافل المحتلين لتترك بصماتها علي وجهها المتعب, ولهذا فسكانها الخلاسيون خليط غير متجانس من قوميات وشعوب مختلفة, تتميز نساؤها بجمال خاص, يختلط فيه الدم الزنجي بالعربي بالايطالي بالتركي. ويؤطر كل ذلك تواضع جم وبأس شديد مع صرامة عسكرية وريثة محنتهم القتالية القاسية. في متحف اسمرا الوطني, تعرفنا علي تاريخ المدينة التي كان في مطلع القرن الرابع عشر لاتزيد عن مجموعة من الاكواخ المطلة علي نهر ماي بيلا ولقد ذكر رحالة اوروبي انه في عام1850 لم يزد عدد سكان اسمرا عن150 شخصا, وهذه المدينة المعزولة كانت بطيئة التطور, واقرب الي القرية منها الي المدينة. المستعمر الايطالي, ترك وراءه اثارا معمارية تشكل واجهات حيوية لرسم شخصية المدينة, ومنها كاتدرائية الرومان الكاثوليك التي بنيت عام1922 وهي من معالم اسمرا المهمة ومسرح اسمرا الذي بني عام1918, ومسجد الخلفاء الراشدين الذي بني عام1900, وقصر الحاكم الايطالي فرناندو مارتيني الذي شيد عام1905 ويعتبر اول بناء من طراز المعمار الكلاسيكي الحديث في اسمرا, وفي عام1940 تم تحويله الي مدرسة انجليزية, ثم اتخذه الامبراطور هيلا سلاسي.مقرا لحكمه, وخلفه الديكتاتور الاثيوبي منغستو هيلي ماريام, حيث حول اسطبلاته الي سجون ومعتقلات تعذيب للثوار الاريتريين. نساء حمائم اسمرا...اسمرا...اسمرا...كررتها ثلاث مرات ثم سألت: لماذا سميت بهذا الاسم, والحكاية تعود الي عام1508 عندما وقع خلاف بين مجموعة من القبائل التجرنية ادي قيام حروب بينها, ولكن نساءهذه القبائل قررن التدخل لحقن الدماء وذلك بالضغط علي رجالهن لاقامة الصلح. انصاع الرجال لرغبة النساء, ليقوم بينهم اتحاد, يسمي باللغة التجرينية اسماريت وبعد ذلك حول الي اسم اسمرا الذي اطلق علي مدينة نساؤها حمائم سلام. كلمة شووق تطلق علي منطقة الاسواق الشعبية وسط اسمرا, والتعامل هنا باللغة العربية والتجرنية, والديانة هي الاسلام والمسيحية, لكن من السهل ان تجد بائعا مسلما يبيعك صلبانا وايقونات واجراسا قبطية الطراز, مما يستخدم في قداس الكنائس. واسواق اسمرا زاخرة باللون المتمثل بالزخارف النباتية الجميلة في ملابس البائعات, الي تلك النقوش الطلسمية علي قطع الفخار واحجار الرخام والرقائق الجلدية. وفي سوق السلال, تقف مبهورا امام اكوام عملاقة من رزم القش التي تنهمك النساء بنشاط عجيب في تجديلها وتحويلها الي اغراض نفعية, مثل الحصران والسلال وحافظات الطعام ولابد ان تعطس وتحك انفك في سوق البهارات,حيث تباع ادوية عشبية وبذور ومسحوق الحناء الخضراء..عشق الاريتريات المولعات بتحوله الي خضاب يزخرف اكفهن. ومنطقة الشووق عبارة عن مصاطب مسقوفة اكثرها ازدحاما سوق الخضروات والفاكهة, تحيط بها احياء فقيرة ذات كثافة سكانية عالية. ويمتاز البائع الاريتري بأنه غير لحوح لايضايق رواد السوق بمناداته علي بضاعته, بل يكتفي بالابتسام مرحبا ولايستسيغ الدخول مع المشترين في عمليات تخفيض الاسعار, فالسعر واحد ولامكان للغش في الشووق زوريا وخيط وفي الشوارع الضيقة التي تحيط بمنطقة الاسواق تنتشر الحوانيت الحرفية مثل حي الصاغة, الذهب والفضة, وكذلك حوانيت الزوريا وهي متخصصة في حياكة وبيع الملابس النسائية التقليدية, وهي من القطن الحر المزين بحواش مطرزة جميلة ورغم ارتفاع اسعاره, الا ان كل امراة اريترية يجب ان تحتفظ بزيها التقليدي, وتصر النساء المتقدمات بالسن علي ارتداء زيهن الوطني لانه فضفاض وذو شكل مميز ويضفي شيئا من الوقار. واما الشباب الاريتري فالاتجاه الي الازياء العصرية يلاقي قبولا اكبر عندهم مما يشكل خطرا علي مهنة الزورية وخلال تجوالي في السوق لاحظت ان بعض النساء يزين جبينهن خيط رفيع مجدول بدقة وعرفت انه علامة تدل علي المرأة المتزوجة ولا ترتديه الفتاة العازبة ونساء اسمرا يتميزن بالوسامة والرشاقة التي تصل الي درجة النحافة. مقبرة الهزيمة وقبل مغادرتي لاسمرا زرت مقبرة في ضواحيها, كانت الجثث فيها من بقايا العتاد الحربي والعسكري الذي تركته جيوش الاعداء المهزومين وتسمي مقبرة الدبابات, ولقد استوقفني ماكتب علي صدر مصفحة: هنا دفن الاحتلال وهنا ولدت الدولة. العشاءالأخير عشائي الاخير في المدينة كان برفقة عدد من الفتيات الاريتريات, اللواتي وجهن لي دعوة لأعيش طقوس عشائهم الظريف, فالاكل كان متروكا في صحن كبير مفروش بقطع الثريد شديد الحموضة يعلوه لحم الضأن والارز. في البداية تم تبخيرنا بدخان القهوة المحمصة, ثم قامت الفتيات, بصنع لقمة صغيرة من الثريد واللحم ودسها في فم الرفيقات,وذلك دليل محبة ومودة. وكانت مفاجأة...لكني بلعت لقمتي ودسست مثيلاتها في فم جارتي التي قالت لي بغنج غني لي وفي الحال بدأت ادندن بأغنية احبها, ليعلو بعدها ضحك كالتغريد, لم اكن اعرف ان المقصود ب يغني لي هي كلمة شكرا باللغة التجرنية, ورغم هذا قررت ان اغني لمدينة اسمرا التي ربما يدفع اصرار شعبها الي ان تزدهر من تحت الرماد.