تبدو بيروت لمن اعتاد زيارتها مدينة' ألغاز', فهي علي جمالها الذي لا يضاهي, وقوة حضورها في الذاكرة العربية تعاني من التباس حقيقي, ناتج عن الأرث الكبير الذي تحمله, ليس فقط لانها مدينة مقاومة بالمعني السياسي تقف وجها لوجه في مواجهة العدو الاسرائيلي ولكن لانها أيضا مدينة تقاوم أيضا علي المستوي الاجتماعي فالذي تجده في بيروت لن تجده في مدينة عربية أخري. بقعة ضوء سحرية في قلب العالم العربي هكذا كنت أتخيلها وأرسم صورها قبل ان تدوسها قدماي للمرة الاولي, في تلك المرة التي كانت قبل عشر سنوات لم أكن مرتاحا لحالة الاستعراض التي وجدتها في الوسط التجاري او منطقة' السوليدير', فالمباني النظيفة اللامعة فشلت في اقناعي ببهجتها فعلي الرغم من قدمها فقد أفقدها اللمعان' عبقها التاريخي' وظلت قائمة بلا روح, فيها أشياء منتحلة لا تخصها, والاكيد ان تلك الحالة الرافضة لتغيير طابع المدينة القديمة صاغت احكامي عنها وانعكست في أول مقال كتبته عن بيروت وقلت فيه ببساطة:' أنا لا أحب لبنان'. الغريب ان هذا الحكم القاسي الذي اختزل المدينة في بعد واحد لم يمنعني قط من البحث عن وسيلة لاعادة بناء جسور الثقة مع هذا البلد الاستثنائي بكل المقاييس, كنت بحاجة الي سنوات لكي أفهم: من أين جاءت تفرد تلك المدينة و لماذا ظل المواطن اللبناني لسنوات طويلة يشعر بالاختلاف عن العرب الآخرين؟ كانت الحرية هي كلمة السر.., فبفضل ما توفر لها من حريات كانت استثنائية بالقياس للحالة العربية العامة التي تمجد الاستبداد رسمت المدينة صورتها في محيط عربي غارق في القيود ولذلك لم يكن غريبا أن تكون بيروت في الخمسينيات والستينيات وطنا لكل دعاة الحرية الذين هزمتهم أنظمة ما بعد الاستقلال الوطني تلك الانظمة التي أدخلت مواطنيها غرفا بملايين الجدران؟! وكما كتبت مرة:' يبدو أن أمثالي من الذين عرفوا بيروت من الكتب والروايات وأحبوا لبنان مع صوت فيروز وأشعار أنسي الحاج ويوسف الخال وخليل حاوي وصعدوا الجبال وناموا تحت ظل الأرز في أفلام فريد الأطرش مازالوا ضحايا تلك الغواية وأسري الحكايات القديمة التي صنعت صورة راسخة ل'نداهة المدن وست الدنيا' ورفضوا إخراجها من هذا الإطار رغم أنها تبدو الآن مثل أم منهكة في الغسيل وإذا بان فخذها قالوا عنها عاهرة!! نعم تذكرت هذه العبارة التي قالها الشاعر الراحل محمد الماغوط حين زرت بيروت لأول مرة لكني ايضا أجلت فكرة توقيع عقد صداقة معها لعقد كامل كان علي خلاله أن أدرب روحي علي محبتها وأن أبدو مثل كاتب ما بعد حداثي عليه أن يبدد سطوة الحكايات الكبري ويقبل الدخول في مباراة مفتوحة مع اليقين كما أن عليه التعايش مع مدينة يعيش أهلها حالة قلق تاريخي