المهرجان يحتفى بالادب المصرى الجديد بيروت مدينة لاهية عما يحيط بها من أخطار! بهشاشتها، وانفتاحها علي الحياة، وتنوعها، تبدو أكثر قوة وصلابة من مدن أخري مستقرة تصّدر وجهاً قوياً راسخاً، هو في النهاية ليس أكثر من قناع. من الصعب طبعاً الإلمام بالوجوه المتعددة والمعقدة للمدينة في أيام معدودة ومشحونة ببرنامج مكتظ من الأنشطة والفعاليات، غير أن بيروت من المدن التي تأخذ بيد زائرها وتساعده في التعرف عليها وإقامة صلة معها أكثر من غيرها، أو علي الأقل، هكذا رأيتها في زيارتي هذه لها. عادة ما أتعامل بحذر مع المدن والأشخاص الذين يتم تحويلهم إلي أيقونات أو رموز لأفكار وقيم بعينها، حتي لو كانت قيماً نبيلة أو محببة كالحرية، والتعدد، الخ. ربما لهذا كنت - في ما مضي -أنظر لبيروت بحذر، وأسخر من الكيتش المصري المتمثل في تعامل كثير من المثقفين المصريين معها بانبهار زائد عن الحد، انبهار يعميهم عن رؤية أي رتوش أو ترهلات تصيب صورتها. خرجت أيضا من زيارتي الأولي والسريعة للمدينة في سبتمبر الماضي بانطباع لم يكن جيداً تماماً، _ إذ كرهت الطابع الاستعراضي للمدينة. غير أن زيارتي الأخيرة لها، للمشاركة في مهرجان بيروت 39 المقام بالتعاون بين هاي فيستيفال ووزارة الثقافة اللبنانية ضمن أنشطة بيروت مدينة عالمية للكتاب، جعلتني أنظر لها بعيون مختلفة أكثر تسامحاً وحباً. كنت كأنني أري مدينة أخري مختلفة تماماً عن تلك التي مررت بها سريعاً من قبل. وقعت سريعاً في هوي بيروت، ثم اكتشفت أني لست وحدي في هذا، فكل المشاركين في المهرجان أعلنوا الأمر نفسه، حتي من يعرفون المدينة جيداً من قبل مثل سمر يزبك، وعبد القادر بن علي، وغيرهم جددوا حبهم لها، وأعادوا التأكيد عليه. في حفل ختام مهرجان بيروت 39 الذي أقيم في ساحة النجمة وأداره بيار أبي صعب ختم حمدي الجزار كلمته الموجزة قائلاً: "ليت كل مدننا بيروت". كان حمدي كأنما ينطق بلساننا جميعاً، نحن من قضينا في المدينة أياماً قليلة لكنها كافية كي نقع في حبها للأبد. هذا الحفل المعنون ب39 كاتباً في 39 دقيقة، والذي كان علي كل منا فيه أن يحكي في دقيقة واحدة عن خبرته في المهرجان، أو يغني أو يفعل ما يحلو له، هذا الحفل كان الأكثر كشفاً عن الجو الحميمي والألفة والصداقات التي نشأت بين الكتاب المشاركين. كان معظمنا متوجساً من هذه الدقيقة المفتوحة ومن الطابع الكرنفالي الاستعراضي المتوقع من عرض يقام في ساحة عامة، إلا أننا خرجنا في النهاية سعيدين بالأمسية التي تلاها حفل لموسيقي الجاز. معظم المشاركين أعلنوا خلال الدقيقة الممنوحة لهم عن حبهم لبيروت، غير أن أطرف المتكلمين كان الروائي المغربي بالفرنسية عبد الله طايع الذي قال: أنا اسمي عبد الله، اسمي عبد الله، اسمي عبد الله، الطايع، الطايع، الطايع. من المغرب، وأحب عبد الحليم حافظ، خاصة أغنيته "أنا لك علي طول خليك ليا". وتلا كلمات الأغنية من الذاكرة". في حين اختار باسم الأنصار صاحب الصوت الجميل أن يغني مقطعاً من أغنية عراقية نالت إعجاب الحضور، ودفعت محمد حسن علوان لأن يقول أنه لو علم منذ البداية أن باسم سيغني بهذا الجمال لتبرع له بدقيقته كاملة. الأهم في هذا الحدث الذي حافظ بيار أبي صعب علي إيقاعه السريع هو الحضور الجماهيري الكبير، خاصة أنه (أي الحدث) جذب أيضاً فضول المارة في الساحة فوقفوا متابعين، ولعل هذا التصالح بين الأنشطة الثقافية وبين الشارع والمكان المفتوح والمقهي والحانة، هو الدرس الأول الذي تقدمه بيروت لغيرها من المدن التي لا تزال تحصر الثقافة في القاعات المغلقة وحدها. لا يعني هذا أن كل أنشطة المهرجان حظيت بجمهور كبير، علي العكس من ذلك، ثمة ندوات حضرها عشرة أشخاص فقط، وندوات أخري نالت حظاً أوفر، ويبدو لي أن المكان بالأساس هو ما حدد حظ كل ندوة في هذا الصدد، فهناك أماكن مثل "الميوزك هول" و"صنائع سبيس" لم تحظ ندواتها بجمهور مناسب، في حين حظيت أمسيات جدل بيزنطي وندوات "ة _ مربوطة" مثلا بجمهور كبير ونوعي. النقطة الجديدة في ما يخص الجمهور هو أن بعض الأنشطة التي عُقِدت في المكتبات العامة اقتصر جمهورها علي طلاّب وطالبات في المرحلة الإعدادية، وهو الأمر الذي أربك الكتّاب في البداية كونهم فوجئوا بالسن الصغيرة لجمهورهم في هذه الندوات، ولم يعرفوا إن كانوا قادرين علي توصيل أفكارهم عن الكتابة لهذا السن أم لا. في الندوة الأولي التي شاركتُ فيها مع عبد القادر بن علي، حمدي الجزار، وعبد الله ثابت، وأدارها صمويل شمعون في مكتبة بلدية بيروت العامة في الباشورة، فوجئنا بأن جمهورنا مقتصر علي طالبات محجبات في المرحلة الإعدادية، أشفقنا عليهن أن يكن مجبرات علي الحضور، وحاولنا قدر الإمكان تبسيط كلامنا، وقبل نهاية الندوة بمدة طلب عبد الله ثابت من صمويل شمعون أن يعطيهن الفرصة لطرح أسئلتهم، لنكتشف عبر الأسئلة الواعية التي طرحوها علينا وتفاعلهن مع أجوبتنا أننا لم نقدرهن حق قدرهن. الأمر نفسه تكرر في ندوة أخري عن "الثقافة والمجتمع" شاركت فيها مع يوسف رخا وزكي بيضون في مكتبة بلدية بيروت العامة في مونو بإدارة سليمان بختي الذي طرح أسئلة ثقافية شائكة تحايل عليها كل منا بطريقته حيث فضلت أن أبدأ كلامي بالحكي عن نفسي وأنا في سن هؤلاء الطلاب وكيف بدأت طريقي للقراءة، في حين وجه إليهم يوسف رخا أسئلة بدأوا في الإجابة عنها بوجل في البداية قبل أن يتشجعوا تماماً مع أسئلة زكي بيضون وكلامه الصريح عن الطائفية والمشكلات في المجتمع اللبناني. ندوة أخري أقيمت في الميوزيك هوول تحت عنوان "حوار بين نساء" شاركت فيها روزا ياسين حسن، راندة جرار وكاتبة هذه السطور وأدارتها المذيعة رابعة الزيات، لم تحظ الندوة بجمهور كثير إلا أنها كانت مفيدة جدا علي مستوي الأسئلة والأفكار التي طُرِحت فيها، كل كاتبة كانت كأنها تفكر بصوت مرتفع أكثر منها تدلي بأفكار قاطعة ونهائية حول الكتابة والجندر، والنسوية، وعلاقة الكاتبة الأنثي بما تكتب. بدا الأمر كأن كل منا تضيف لمسة ما علي جدارية متشابكة قبل أن تأتي زميلتها لتضفي بعداً آخر علي الجدارية نفسها، ليس معني هذا أننا اتفقنا في الآراء، إنما فقط أن الآراء كانت تكمل بعضها بعضا. احتفي المهرجان بالأدب المصري الجديد بشكل خاص عبر ندوة أدارها الروائي اللبناني رشيد الضعيف في مقهي "ة _ مربوطة" وحظيت بحضور وفير معظمه من الأجانب. بدأ رشيد الضعيف الندوة بمقدمة كتبها عن مشهد الكتابة الجديدة في مصر واختلافها عن كتابة الأجيال السابقة. نجحت الندوة إلي حد كبير في تقديم مشهد بانورامي لوضع الأدب المصري في لحظته الراهنة بكل ما يتسم به من ثراء وتعدد بل وحتي فوضي. كما تم التركيز علي مشهد النشر أيضا والتغيرات التي طرأت عليه في السنوات الأخيرة، كذلك العوامل التي أدت لزيادة مقروئية الأدب في مصر عمّا سبق. حانة جدل بيزنطي احتضنت بدورها أمسية شعرية قدمها عبده وازن وشارك فيها كل من أحمد يماني، عبد الرحيم الخصار، ياسين عدنان، وعبد الله ثابت، وحرص كثير من الكتاب المشاركين في المهرجان علي حضور هذه الأمسية رغم تعارضها في الموعد مع حفل عشاء أقيم لهم في مقر المجلس البريطاني، ونبع حرصهم علي حضور الأمسية بالأساس من رغبتهم في التعرف علي هذه الحانة الشهيرة التي لطالما سمعوا أو قرأوا عنها وعن الأمسيات الشعرية التي تقام فيها. حضر هذه الأمسية أيضا الروائية علوية صبح، والشاعر والناشر خالد المعالي، والشاعر محمد العبد الله والشاعر حسين بن حمزة وآخرون. ندوات وأنشطة المهرجان أدارها عدد كبير من الكتاب والمثقفين المعروفين مثل الروائي حسن داوود، رشيد الضعيف، يسري مقدم، جبور الدويهي، بيار أبي صعب، وسليمان بختي. أخيراً، لعل أهم إضافة قدمها المهرجان، هو تلك الصداقات والنقاشات المستفيضة والتي أظنها ستكون مستمرة، بين مجموعة واسعة من الكتاب العرب الشباب، الذين نجحوا، رغم أن معظمهم يلتقي لأول مرة، في الوصول إلي أرضية مشتركة ثقافياً وإنسانياً كأنهم أصدقاء قدامي. الاسبوع القادم: نائل الطوخي من بيروت: الادب علاجاً للطائفية