حينما كنا صغارا كم كنا نشغف بكلمة الأمل ونستعذب كلمة المستقبل ونستدني أشواق اليوتوبيا ونحلق في أجواء المدينة الفاضلة, وكم كانت تأسرنا هذه الكلمات وتفتننا عن ان نفعل شيءا لأننا بالفعل لم نكن نقوي علي شيء, من ثم فلم يكن لنا الا ان ننعم بنشوة الحلم وسكرة الأمل. لكن.. كيف نظل هكذا بعد أن أنضجتنا التجارب وعركنا الحياة وبلونا الأيام, أظن ظنا يقارب اليقين في أن هذا لا يستسيغه عقل أو يرضاه منطق أو يتسق مع أطوار الأزمات التي نعايشها لا سيما وقد استحكمت وباتت مؤرقة للضمير الوطني, ولا يعني ذلك مطلقا انكارا لقيمة الأمل أو جحودا لما يحققه من دافعية وثقة وتوازن أو اقتصار وجوده علي طور من أطوار الحياة دون غيره. لكن المعني المراد هو أن الأحلام الرائعة والآمال العراض تعد ذات ثمن باهظ من جهد وفكر ذلك اذا أردنا تجسيدا وانعكاسا مباشرا لها علي حركة الواقع ليتحقق الرضي والارادة وتأكيد الذات فيظل للحلم والأمل روعة بالغة ويظل أيضا للمعني قدسيته في النفس, من ثم تظل أيضا امكانية استدعائه وتجديده وتغيير مضمونه ومحتواه في مسيرة الحياة. فاما أن نقنع هذه الآمال حتي نراها حقيقة ماثلة للعين أو أن نكون غارقين في عالم من وهم وخيال لا يمكن تصوره الا في دواوين الشعراء وملاحم المثاليين من الفلاسفة. والمتأمل في حال مصر اليوم يجد انها ليست بعيدة عن هذا العالم ان لم تكن منغمسة فيه وأمثل لذلك بهذا الفرق الشاسع والبعد البعيد بين ماضيها وحاضرها وحاضرها وحاضر الأمم الأخري, وأكرر القول ان المتأمل لحال مصر لابد ان ينكر فيها الشيء الكثير ذلك انها قد تحولت وتحولت حتي يكاد يختلط الأمر أنها مصر التي تفردت طيلة تاريخها بأشياء قلما كانت كائنة في أمة من الأمم, فلقد كانت صورة حية ناطقة ولكن سرعان ما طمست معالمها وبهتت قسماتها حتي لا يشك كل الشك من يراها اليوم انها تلك التي كانت او حتي شيء منها!! تحولت وتبدلت فيها الأخلاقيات والقيم والمبادئ والمفاهيم والأفكار والضمائر والحس القومي بل والطابع العام لشخصيتها وصارت فئات المنتفعين هي الفئات المتصدرة بل هي النخبة والصفوة وأصبح للجهل السيادة وللحماقة الصدارة وللتدليس التقدير وللغباء الألمعية وللنفاق المصداقية وللمهادنة الاحترام والتوقير, وللكذب بريقه وسحره... نعم صارت الفوضي حرية والحقيقة أسطورة والرأي هوي والمنطق هراء والوقار تخلف والعشوائية ثقافة, والهزل فكر. ان مصر الان لا تحيا بآمال غضة نضرة يمكن ان تحقق لها نقلة نوعية علي الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي, بل تحيا بآمال يائسة ذابلة ليس فيها من معني الأملإالا اسمه, وقد اكتفينا بذلك حتي أصبحت الحياة المصرية بأسرها تموج حولنا بالشرور والمآثم. ان جرعة الحرية التي منحها الأفراد لأنفسهم هي خطر داهم علي عقولهم لأنها هي التي سمحت للصغار وصغار الصغار أن يتفوهوا دون أن يكون لديهم أهلية للرأي والموقف ووجدوا من يعتد بما يقولونه ويهيء نفسه للرد لا ليقول قولا سديدا أو رأيا صائبا يمكن ان يدفع بالمسيرة الوطنية ولو خطوة, انما يدلي بالرأي أو ما يتصور انه رأي علي سبيل الاعتداد بالذات وتأكيدها اذا انها بالفعل لم تكن متأكدة من قبل فشاء الظرف القومي لها ان تخوض في كل شاردة وواردة... تتكلم ولا تقول تمارس الفعل الميكانيكي وترفض الفعل العقلي تعشق اللغو والهرطقة وتؤثر السذاجة علي العمق, تطيح بالهدف العام من أجل غايات رخيصة, غاب لديها معني الذوبان والتوحد في الوطن وغالبها التحزب والطائفية والتشيع. واذا كان الانسان يمثل في ذاته قضية كبري لها أبعادها وزواياها وتشعباتها الكثيرة... قضية لم يرفع عنها القلم, فهل يمكن معرفة الي أي حد يمكن أن يخضع لمجموعة من الضرورات الاجتماعية والي أي حد يستطيع ان يتحلل منها؟ فبصفته في الأصل كائنا اجتماعيا ولزاما عليه أن تظلله القيود والضرورات والضوابط وكان في ذات الآن تواقا للحرية قدر حاجته للهواء, فكيف الفرار من هذه التناقضية؟!. فالدين والقانون والأخلاق والعرف كلها ركائز مهمة في كل نظام اجتماعي فلا يوجد نظام الا ويقوم علي بعضها أو أكثرها, وقد تختلف أولويات وترتيب هذه الركائز حسب قوتها وتأثيرها وعمق القناعة بفاعليتها, لكن وفي كل الأحوال مهما ضعفت ووهي تأثيرها فلابد ولا غني أن تكون تلك المحددات قائمة تمنع التجاوزات وتقف في سبيل كل جموح, فهي ضرورات تنطوي علي فلسفة عليا بل انها ما سميت ضرورات الا لما تضمنته من هذه الفلسفة التي تحمل معاني يتجسد أولها في النظام والالتزام وآخرها في الحرية المقيدة!! فهل نعي ضرورات الحرية حتي نجعلها حرية بناءة أم يظل للحرية معني انسيابي لا طائل من ورائه سوي حصاد الهشيم ان جان بول سارتر لم يخطئ أبدا حين قال: انه بنفس الحجارة تستطيع ان تشيد للحرية معبدا أو أن تقيم لها قبرا. ان تغيير صورة الحاضر المصري لن تحدث بتلقائية ولن تكون قدرا محتوما ما لم يشارك المصريون في تحوراتها بعقولهم المجردة واخلاصهم وآمانتهم التاريخية وفاعليتهم وارادتهم ودأبهم ومثابرتهم للظرف المستعصي وتصديهم للعدو المتآمر المستخفي والظاهر والذي لا يريد لهذا الحاضر الا أن تكون سمته الأولي هي الفتن والدسائس والمكائد وآليات التفتيت والتشرذم ليضمن سقوط الحاضر من ثم غياب المستقبل, لكن الذي لابد ألا يغادر الذاكرة القومية هو أن الأمم التي ليست لها ماض يذكر لتخلق لنفسها حاضرا متألقا تستعيض به عن ماضيها المبهم وتعتقد انها تلائم به ماضا مجيدا وما ماضيها الا حلقة من حياتها قد أدركها الصدأ لكنها تعيد لها الطلاء حتي تصبح كلا واحدا ليس فيه شيء يعاب. فكيف بنا ونحن لسنا في حاجة الي كل هذا أو شي من هذا, ليس لنا الا أن نستوحي الماضي ونستحضره حتي يدب العزم فينا ونخلق حاضرا لا يقل عن الماضي روعة وابداعا واعجازا. رابط دائم :