كان نبينا محمد صلي الله عليه وسلم إذا يمشي يسمع تسبيح الحصي تحت قدميه الشريفتين, أما نبينا داود عليه السلام فكان يرتل مزاميره, وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون, فتؤوب الجبال معه والطير, فقد وهبه الله من الصوت العظيم ما لم يعط أحدا مثله, بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة الزبور, وهو الكتاب المنزل عليه, تتجمع الطير علي نغماته لتسمع له وترجع معه مزاميره, وتسبح بتسبيحه, وكذلك الجبال تجيبه, وتسبح معه كلما سبح, بكرة وعشيا, يقول تعالي: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب. ومن أفضال الله ونعمه علي داود أن ألان له الحديد, يقول تعالي: وألنا له الحديد, قال الحسن البصري: ألان الله الحديد لداود, فكان يفتله بيديه, كما يفتل الحبل, لا يحتاج إلي نار ولا إلي مطرقة كما يحتاج لذلك الحدادون. فكان عليه السلام يصنع الدروع الحربية لقومه, وكانت قبله تصنع من صفائح الحديد, الدرع صفيحة واحدة, فكانت جامدة لا مرونة فيها, ولا تعطي الجسم حرية الحركة في المعركة, بل كانت تحد من حركته وتثقله, فألهم الله داود عليه السلام أن يصنع الدروع مسرودة من رقائق متداخلة متموجة لينة, تتشكل مع تضاريس جسد المحارب, وتتحرك بحركته, وأمره بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح. وهو التقدير في السرد, المذكور في قوله تعالي: أن اعمل سابغات وقدر في السرد, فكان داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله, وهذا من فضل الله عليه وعلي الناس, فهذه الدروع السابغات تقيهم بأسهم في الحرب, لتحصنكم من بأسكم فوجب علي الناس الشكر لله المنعم المتفضل علي خلقه. ويتجلي الكمال البشري في شخصية نبي الله داود عليه السلام, وتتجلي الوسطية التي هي الخيرية والأفضلية, وتتمثل في الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق, وتأتي الوسطية نتيجة للعلم الكامل والخشية المتناهية والعقل الراجح, وهي جوهر الإسلام الذي جاء به النبيون من لدن آدم حتي محمد صلي الله عليه وسلم, فالحق وسط بين الإفراط والتفريط, بين الغلو والجفاء, وكان داود عليه السلام وسطا في شأنه كله, كان يصوم يوما ويفطر يوما, وكان ينام نصف الليل ويقوم( يصلي) ثلثه وينام سدسه, وهو أحب الصيام وأحب الصلاة إلي الله كما أخبرنا رسولنا الكريم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: أحب الصيام إلي الله صيام داود; كان يصوم يوما ويفطر يوما. وأحب الصلاة إلي الله صلاة داود; كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. وقد آتي الله داود القوة البدنية حتي أنه وهو شاب يافع قتل جالوت وكان جبارا من الجبابرة, ومع كان أوابا, يقول تعالي: اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب, وذا الأيد أي قوي البدن, ولكن لا يظلم ولا يستخدم قوته ضد الضعفاء, ومع قوته يعترف بضعفه أمام الله وعبوديته له, فيرجع إليه تائبا خاشعا متذللا. وكان داود ملكا علي بني إسرائيل, يملك الدنيا, ولكنه تواضعا لله كان لا يأكل إلا من عمل يده, فقد كان حدادا يصنع الدروع, ويبيعها ويأكل من كسبه, وفي الحديث الذي رواه البخاري: ما أكل أحد طعاما قط, خيرا من أن يأكل من عمل يده, وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رابط دائم :