يبدو الدستور الجديد، قضية ثقافية في أحد أبعاده فيما يثير بالفعل جدلا بين المثقفين دون أن يكون ذلك على حساب حقيقة أن هذا الدستور الجديد شأن عام، والنقاش حوله حق أصيل لكل المصريين، باعتبار أن الدستور هو مصدر كل سلطة وأساس أي شرعية كما هو الحال في الدول الديمقراطية، التي تنظر شعوبها بتبجيل لوثائقها الدستورية وتهب في مواجهة أي عدوان على الدستور. وينظر الأمريكيون للوثيقة الأصلية لدستورهم باعتبارها الأهم في تراثهم المكتوب، كما يحلو لهم التفاخر بأن هذا الدستور من أقدم الدساتير المكتوبة في العالم الحديث وأول دستور في العالم على الإطلاق يعرض على الشعب لإقراره. وحتى الآن، يشكل الدستور الأمريكي بملابساته التاريخية وعملية صياغته وإجراءات إعلانه مادة ثرية للصحافة على غرار ما فعلته مجلة "نيويوركر" في عددها الأخير، حيث أعادت للأذهان أنه كتب أصلا على أربع لفائف من جلد الرق حجم كل منها لا يزيد كثيرا عن قدمين عرضا وقدمين طولا، غير أن بعض الأفكار التي تضمنتها هذه الوثيقة حظت بالخلود وانتقلت عبر المحيطات. وسط الجدل حول الدستور الجديد في مصر تتردد أسماء لها حضورها الثقافي، فيما تكشف المناقشات الجارية على الساحة المصرية عن شعور وطني بأهمية التوافق العام حول الدستور الجديد واستلهام روح ثورة 25 يناير وتحقيق الحلم المصري في النهضة الشاملة واحترام الموروث الثقافي للشعب والحفاظ على الهوية المصرية مع الاستفادة من دساتير الديمقراطيات العريقة وإعلانات حقوق الإنسان العالمية والمواثيق الدولية. كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أعلن عن بدء إعداد "وثيقة مبادىء حاكمة" وضوابط لاختيار الجمعية التأسيسية لإعداد دستور جديد للبلاد وأصدارها في إعلان دستوري بعد اتفاق القوى والأحزاب السياسية على هذه الوثيقة. وتوالي صحف ووسائل إعلام مصرية نشر نصوص مشاريع مقترحة للمبادىء الحاكمة للدستور الجديد، فيما جاءت هذه المشاريع لتعبر عن قوى سياسية ورؤى لشخصيات عامة ومثقفين، فضلا عن مرشحين محتملين للرئاسة وبدا حضور المثقفين واضحا سواء على مستوى النقاش العام أو الاجتهادات لصياغة هذه الوثائق. كان الدكتور أسامة الغزالي حرب، رئيس حزب الجبهة الديمقراطية، قد أعلن عن مشروع وثيقة موحدة للمبادىء الحاكمة للدستور الجديد تحت عنوان "إعلان حقوق الشعب المصري" .. موضحا أن نقطة البداية لهذا المشروع كانت بتكليف من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك لإعداد وثيقة تعبر عن روح الثورة. وأشار أسامة الغزالي إلى أنه وضع هذا المشروع مستفيدا من عدة وثائق سابقة سواء على مستوى مصر مثل وثيقة الأزهر وإعلان حقوق الإنسان المصري أو على مستوى العالم مثل وثيقة الماجنا كارتا البريطانية ولائحة الحقوق المدنية الأمريكية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا وإعلان الحقوق الخالدة في إلمانيا. وحسب ما ذكرته وسائل إعلام فإن الوثيقة التي أعدها أسامة الغزالي تنص على أن "المصريين جميعا مواطنون احرار متساوون في الحقوق والواجبات والحريات أمام القانون والدستور دون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو الانتماء الإقليمي أو الطبقي أو الاجتماعي أو أي سبب آخر، كما أن كرامة الإنسان المصري غير قابلة للانتهاك والحفاظ عليها مسئولية سلطات الدولة". اعتبر الروائي الدكتور علاء الأسواني أن من يطالبون بوضع الدستور أولا إنما يحتقرون الإرادة الشعبية التي صوتت ب"نعم" في الاستفتاء بغية إنجاز خريطة طريق تبدأ بالانتخابات أولا، فيما نوه الكاتب والباحث السيد يسين بتجاوز الخلافات الحادة التي سادت في الفترة الماضية بين من ينادون بالدستور أولا وهؤلاء المتحمسين للانتخابات أولا وفقا لنتائج الاستفتاء الدستوري. وأوضح الأسواني في لقاء بعنوان "مصر بعد الثورة" بساقية عبدالمنعم الصاوي أنه يمكن تبديد مخاوف من ينادون بالدستور أولا خشية سيطرة فئة بعينها في البرلمان القادم على صياغة الدستور "من خلال وضع خارطة طريق محددة تضمن أن من يضعون الدستور الجديد لا ينتمون لفصيل بعينه". توقع معلقون أن تشهد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة حضورا حاشدا للناخبين لنقل مسئولية الحكم للسلطة الشعبية المنتخبة والملتزمة بأهداف وغايات ثورة 25 يناير. وبدا نبيل عبدالفتاح الكاتب والباحث بجريدة الأهرام مهموما بالمشهد الراهن وما وصفه بمحاولات بعض القوى اقتناص لحظة الاضطراب والسيولة والرؤى الغائمة لتحديد مصير الدولة الحديثة ومواريثها الدستورية والقانونية. كان الاستفتاء، الذي أجري في التاسع عشر من مارس الماضي، قد أظهر تأييدا ساحقا لخارطة طريق تقضي بإجراء انتخابات برلمانية ثم وضع دستور جديد فإجراء انتخابات رئاسية لتسليم السلطة لمؤسسات منتخبة من الشعب. وتتفق مشاريع واقتراحات المبادىء الحاكمة للدستور الجديد على أن ثورة يناير أتاحت إمكانية بناء مجتمع جديد يقوم على الحرية والعدالة فيما تتنوع الاجتهادات والمبادرات حول طبيعة المرتكزات والقيم الحاكمة لمجتمع مابعد الثورة والمبادىء الأساسية للنظام الجديد. كما شددت هذه المشاريع على أهمية ضمان التداول السلمى للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة واحترام التعددية السياسية والثقافية والاعتزاز بالبنية الثقافية والحضارية الثرية لمصر وباعتبارها جزءًا أصيلا من الحضارة الإنسانية. أكدت وثائق مطروحة ضمن النقاش العام حول المبادىء الأساسية الحاكمة للدستور أن يراعي في اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية المائة الذين سينهضون بمهمة إعداد الدستور الجديد لمصر تنوع خبراتهم في المجالات القانونية والسياسية والعلمية والثقافية وعدالة التمثيل لجميع أطياف الشعب المصري. ولاحظ معلقون أنه وسط حالة الاهتمام غير المسبوق بمسألة الدستور الجديد ظهر مفهوم عقد الحريات الاجتماعي بين المصريين، فيما يشكل الدستور الجديد الوثيقة القانونية والسياسية التي سيتم بواسطتها صياغة عصر الحرية الجديد وتحصين حقوق المواطن وكرامته. وأعاد السيد يسين للأذهان أنه بالرغم من شفافية ونزاهة الانتخابات التنافسية بين الأحزاب في الديمقراطيات الغربية العريقة كثيرا ما يحدث احتكار لعملية صنع القرار من جانب النخب السياسية الحاكمة حتى لو كان ذلك ضد الدستور، مستشهدا في هذا السياق بحالة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش. وذهب السيد يسين إلى أن جورج بوش استطاع ضد قواعد الديمقراطية، بل وضد الدستور اختطاف النظام السياسي الأمريكي عن طريق المحافظين الجدد الذين شغلوا المناصب الرئيسية في إدارته، فيما اعتبر أن بوش لم يستشر الكونجرس أو يعرض عليه - كما يقضي الدستور - الحروب التي شنها في أفغانستان والعراق. ومن الطريف أن "مجلة نيويوركر" أكدت في دراستها التي نشرتها مؤخرا حول الدستور الأمريكي أن الرئيس الراحل بنجامين فرانكلين، والذي يوصف بأنه من أهم وابرز مؤسسي الولاياتالمتحدةالأمريكية كان على ثقة بأن وثيقة الدستور تنطوي على عيوب ومطاعن كثيرة، كما أن هؤلاء الذين سهروا على صياغتها ليسوا بمعصومين من الخطأ والزلل. ومع ذلك، فإن الرأي استقر على هذه الوثيقة التي تؤكد على الحق في السعادة "ليس باعتبارها الأمثل على الإطلاق، وإنما لأنه لا يوجد ما هو أفضل منها حينئذ"، فيما خضع الدستور الأمريكي بعد ذلك لتعديلات عديدة رغم أنه في الأصل أحد "أقصر وأوجز الدساتير في العالم"، حيث لم يزد مجموع كلماته عن 4400 كلمة.