لا أحد يفهم مقاصد البعض من إثارة غبار كثير فى الأفق إلا عندما تتكشف دوافعه الحقيقية وقدر مكاسبه أو خسائره فى قضايا بعينها، وهو أمر ينطبق على سياسيين وحقوقيين وإعلاميين ونشطاء من المجتمع المدنى فى مصر. وللأسف تشارك السلطة فى أحيان كثيرة فى منح هؤلاء شرعية الدفاع فى أمور لا تقبل التأويل، أو لا مجال فيها للخصومة مع الدولة بالسكوت عن طرح القضايا المثيرة للجدل وتناولها بالشروحات المطلوبة أمام الرأى العام، فالأخير يملك حقاً أصيلا فى المعرفة ولم تعد أنصاف الحقائق ترضيه ولا الصمت الرسمى عن أصحاب البطولات الوهمية يسعده، فلم يعد المجتمع المصرى مثلما كان قبل سنوات قليلة ، فهو يموج اليوم بتنوع غير مسبوق فى الآراء والاتجاهات ويعرف الناس طرقاً للتعبير غير معتادة، ولا يمكن أن نزنها بموازين الماضي. واحدة من القضايا الأكثر إثارة للجدل اليوم قضية التمويل المقدم من دول ومنظمات أجنبيه لجمعيات ومؤسسات أهلية داخل مصر للقيام بأنشطة متنوعة من حقوق الإنسان إلى مكافحة الفقر ومن حقوق المرأة إلى تمكين الشباب ومن دعم المواهب العلمية إلى تشجيع جيل جديد لخوض غمار السياسة والقاسم المشترك فى كل ماسبق هو ماهية التمويل المقدم ولماذا تدافع بعض الحكومات عن متلقيه باستماتة وتقوم الحملات فى منظمات دولية ضد بعض الإجراءات التى تقوم بها مصر ودول أخرى فى العالم النامى من أجل وقف تأثير تمويل بالمليارات على السياسات الداخلية ويصل الأمر إلى قلب المائدة على حكومات لا حول لها ولا قوة لمجرد أنها تبدى اعتراضا على السياسات المفروضة من دول كبيرة فى الغرب. عندما بدأت الدول الكبرى فى العالم الغربى فى تقديم تمويلات سخية لدول فى العالم النامي، لم يكن الهدف فقط هو دعم اقتصاديات تلك الدول وبرامج التنمية المحلية فيها، ولكنها كانت تؤسس لسياسات جديدة تقوم على صناعة نخب موالية فى دول صديقة تكون قادرة على التأثير فى صناعة القرار فى بلدانها، وبديلة عن التدخل الغربى المباشر فى الشئون الداخلية... وفى كثير من الأحيان، يقول البعض إن الدولة نفسها تحصل على تمويلات كبيرة من خلال برامج وكالات التنمية الغربية، وهو أمر لا مجال للنقاش فيه، نعم الدولة تحصل على منح بموجب اتفاقيات شفافة معلنة توجه بالأساس لخدمة برامج تخدم قطاعات عريضة من المواطنين فى صورة تحسين البنية التحتية والتنمية الريفية وتشجيع التعليم فى المناطق الفقيرة وتوفير رعاية صحية أفضل للمحرومين منها. ولا يمكن في جميع الأحوال أن نضع الدولة في مقارنة أو في وضعية متساوية مع أفراد أو منظمات بعضها يعمل تحت غطاء شرعي من وزارة التضامن الاجتماعي والبعض لا يملك أوراقا رسمية تمنحه أهلية لتلقي تمويل خارجى لا يضعه تحت طائلة القانون ولا يحصنه من الملاحقة القضائية. وقد بلغ الأمر حد تأسيس أحزاب لجمعيات أهلية بغرض الحصول علي تمويل خارجي من دول لها مصالح مباشرة في مصر، وترغب في التأثير في صناعة القرار بشتي الطرق. ولا أستطيع القبول بفكرة أن رجال الأعمال المصريين والأثرياء لا يقبلون علي التبرع للمنظمات الأهلية، ولا يسهمون في العمل الخيري ورفع قدرات المجتمع نتيجة غياب ثقافة العمل الأهلي، فمصر شهدت طفرة في التبرع بالمال والأرض والعقارات وتخصيصها لأوجه الخير قبل أكثر من مائة عام، ولا يمكن نسيان كيف ظهرت جامعة القاهرة إلي الوجود عن طريق وجهاء المجتمع المصري. ------ في بيان وزارة الخارجية ردا علي الانتقادات الغربية بشأن مزاعم التضييق علي عمل المنظمات المدنية، هناك أرقام لافتة حيث قال البيان إن هناك أكثر من 47 ألف جمعية أهلية وما يقرب من 100 منظمة غير حكومية أجنبية تعمل في مصر بكل حرية في العديد من المجالات ذات المنفعة للمجتمع المصري، بينما يتم إغفال أن المنظمات التي يخضع الأفراد المتصلون بها للتحقيق لا تمثل إلا عددا محدودا للغاية. وقال البيان إن التقدير المنصف وفقا لمبدأ »النسبة والتناسب« يدحض كل الادعاءات الواردة في تلك التصريحات التي تحاول ترسيخ الانطباع بوجود مناخ غير موات لعمل منظمات المجتمع المدني.... ما جاء في بيان وزارة الخارجية يقول إن موجة الانتقادات ضد الدولة المصرية تلعب فيها الدوافع السياسية دورا مهما، وتمثل العلاقات بين دوائر سياسية خارجية وبين نشطاء وحقوقيين في الداخل ركنا مؤثرا في تحريك الانتقادات في توقيتات بعينها. ---------- دون الإستغراق كثيرا في تبيان وجود قوانين حاكمة لحركة المجتمع المدني في الديمقراطيات الغربية، وفي دول كبري تعاني تدخلات دول محورية في النظام الدولي مثل الولاياتالمتحدة ومجموعة دول غرب أوروبا، فإن الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لنا هو أن المجتمع المدني، حتي في أعتي الديمقراطيات، لا يمكنه التواصل المفتوح وغير المنضبط مع الدوائر الخارجية من دون قيود تخص أولويات الأمن القومي، بل إن تنظيمات المجتمع المدني في الولاياتالمتحدة وأوروبا أداة واضحة من أدوات السياسة الخارجية لتحقيق أهدافها ومصالحها . العواصم التي تنكر علينا تنظيم حركة المجتمع لا تقبل لدول كبري منافسة علي الساحة الدولية، أن تتحرك بمرونة ودون قيود، وتراقب كل »سنت« تنفقه دول أخري داخل المجتمعات الأمريكية والأوروبية. اتصالا بما سبق فقد شكلت إجراءات حكومية في الولاياتالمتحدة ودول أوروبية تهديدا للحريات العامة في وقت تقوم الحكومات بمواجهة موجات الإرهاب المتتالية، وحدث أن أقر الكونجرس الأمريكي، وأقرت برلمانات أوروبية تعديلات تشريعية تحد من الحقوق والحريات العامة، وسمحت بفرض حظر التجوال مثلما جري في بروكسل مؤخرا، وهناك من فرض حالة الطواريء مثل باريس وجرت عمليات اعتقال للاشتباه ومراقبة لمواقع التواصل الاجتماعى لدورها في نشر العنف وتجنيد المتطرفين وتعديلات دستورية تفتح الطريق لسحب الجنسية من المتجنسين تحت بند إجراءات ضد البيئة الحاضنة للإرهاب.... كما أن حركة السفر وحركة المواطنين عبر دول الاتحاد الأوروبي تخضع لمراجعات مهمة بعد دخول إرهابيين وسط موجة الهجرة الواسعة من سوريا عبر الحدود التركية، ودول شرق أوروبا في الطريق إلي غرب أوروبا. وقد تباينت ردود أفعال منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني بين مؤيد ورافض في المجتمعات الغربية، إلا أن الحوار المجتمعي قائم ويتركز علي قاعدة مهمة، ألا وهي الحفاظ علي وحدة وتماسك الدولة، وعدم ترك ثغرات في جدار الأمن القومي يدخل منها المتطرفون والقتلة، ثم يأتي البعض وسط كل تلك الصورة الغائمة وينكرون علي مصر قيامها بإجراءات ضرورية تحمي جبهتها الداخلية وحربها علي جماعات إرهابية، كل شاغلها إسقاط الدولة وتمكين المتطرفين مجددا من السلطة..... ومثل هذه التطورات السابقة تؤكد الانتقائية التي يتم التعامل بها مع ملف المجتمع المدني، فالإجراءات الاستثنائية حلال عليهم وحرام علينا وحماية الجبهة الداخلية لا نقاش فيها عندهم بينما هي عندنا خروج علي حقوق الإنسان وانتهاك صارخ للحريات الأساسية!! ---- وطالما نحن بصدد الحديث عن قانون جديد ينظم أنشطة المجتمع المدني، نقول لوزارة التضامن الاجتماعي إن الوقت قد حان لحسم هذه المسألة، ونقترح إصدار »كتاب أبيض« حول منظمات المجتمع المدني في مصر يتضمن: 1 النصوص القانونية الحاكمة لعمل المنظمات الأهلية. 2 المنظمات الحاصلة علي ترخيص رسمي بالعمل في مختلف المجالات (قائمة كاملة). 3 المنظمات الحاصلة علي ترخيص رسمي يسمح لها بتلقي أموال من الخارج (قائمة كاملة). 4 أسماء المنظمات التي تتلقي أموالا من الخارج ولا تطبق القانون فيما يتعلق بالاشتراطات والضوابط والقواعد التي حددها القانون والمخاطبات بين الوزارة وبينها في هذا الشأن وتاريخ هذه المخاطبات. 5 قائمة المنظمات التي تتجاهل ذلك وترفض الرد علي الوزارة. إن صدور »الكتاب الأبيض« يضمن اطلاع الرأي العام علي حقائق الأمور وحتي تتوقف المزايدات الرخيصة والاتهامات للدولة بمحاصرة الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وحتي لايستغل ذلك في الخارج علي أن ينشر هذا الكتاب علي نطاق واسع بحيث لا تثير عمليات المحاسبة وتطبيق القانون بعد ذلك كل هذا الصخب الموجود حاليا حول قضايا لا تستحق كل تلك الضجة.