كوبا في مساء يوم الثالث والعشرين من فبراير 1903 ، تبدو الأجواء صافية فى الجزيرة الاستوائية الوادعة، و"هافانا" العاصمة تبدو في أكمل زينتها، ورئيس البلاد توماس بالما يتأهب لاستقبال موكب الرئيس الأميركي تيودور روزفلت، وحفاوة الاستقبال تظهر عمق العلاقات بين البلدين في صداقة تجمعها روابط الأصل والجيرة . توماس لا ينسى دور روزفلت فى إنجاز معاهدة الاستقلال عن إسبانيا عام 1898، بعد معارك طاحنة خاضها الكوبيون ضد المحتلين دامت لأكثر من ثلاثة عقود، وبموجب هذه المعاهدة أعلنت واشنطن استقلال كوبا، وأعقب ذلك كتابة دستور للبلاد، إلى أن تم انتخاب توماس أول رئيس للبلاد. ذهب روزفلت إلى هافانا مرتديا زى دعاة السلام، وفى بادرة لإظهار امتنان هافانا لضيفها الكبير وقع الرئيسان معاهدة صداقة تم بموجبها تسليم جزيرة جوانتنامو الكوبية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية نظير إيجار سنوي يبلغ 2000 دولار ، قرار كان كفيلا بطي صفحة الصداقة إلى الأبد، لتشتعل الحرب بين "السيجار الكوبي" و"برميل البارود الأمريكي" رُسم عليه صورة العم السام. تسببت المعاهدة في اندلاع الثورات المناهضة لتوماس الذي لم يكد يتم عامه الأول في مقعد الرئاسة، فطلب من حلفائه الأمريكان مساعدته للبقاء في منصبه، وبالفعل أرسلت الولاياتالمتحدة العون، لكنها تراجعت عن دعمه فيما بعد، ليتم تعيين حاكم عسكري أمريكي أدار البلاد حتى عام 1909 ليتم إعلان الجمهورية الكوبية الثانية. منذ ذلك الحين والولاياتالمتحدة ترسل شيكا بمبلغ 2000 دولار للحكومة الكوبية، وظلت تدعم قادتها عسكريا، وكان أشدهم ولاءً هو فولهينسيو باتيستا، الذي حكم كوبا حكمًا ديكتاتوريًا من عام 1934م إلى 1944م، ومن عام 1952م إلى عام 1959. في عام 1959 كانت هافانا على موعد مع حدث تاريخي غير من علاقتها إلى الأبد مع الولاياتالمتحدة، المحامى الشاب فيدل كاسترو ورفاقه تمكنوا من الإطاحة ببتايستا، ربما بدا الحدث عاديا فى الجزيرة الكوبية التي اعتادات الانقلابات والحكم الشمولي، لكن كاسترو أظهر من اليوم الأول عن سياسته المناهضة لواشنطن، فكان يؤمن أن الرأسمالية التي أتبعها رجال الولاياتالمتحدة من رؤساء كوبا قد جعلت من الشعب بأسره حفنة من الفقراء والمعدمين، وأن "الاشتراكية" وحدها هى القادرة على الارتقاء بجموع الفقراء من شعبه، حينها توجه شرقا صوب الاتحاد السوفييتي، وعزز العلاقات عبر الحصول على دفعات كبيرة من روسيا. إظهار تلك الأسلحة فى عرض عسكري بساحات هافانا عام 1961 ، كان بمثابة كارت إنذار شديد اللهجة فى خضم الحرب الباردة، حينها تحدث كاسترو عن ضرورة تحرير سائر التراب الكوبي من الاستعمار الأمريكي في إشارة إلى جوانتانمو. بعد ذلك بعام عام 1962 تأهب العالم لحرب عالمية ثالثة تقضى على الحرب الباردة المشتعلة في الخفاء بين واشنطن وموسكو، تكون ساحته كوبا، فجهاز المخابرات الأمريكية CIA"" أظهر صورا لإنشاء قواعد صواريخ باليستية سوفيتية متوسطة المدى قادرة على ضرب معظم الولاياتالأمريكية، انتفضت إدارة الرئيس الأمريكي جون كيندي، وتبادل الاتصالات والتهديدات مع زعيم الاتحاد السوفييتي نيكيتا خروتشوف، وفى إبريل عام 1962 تم التوصل لاتفاق بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي يقضى بتفكيك منصات الصواريخ السوفيتية مقابل تعهد أمريكا عدم بغزو كوبا. أصبح كاسترو آنذاك محصنا باتفاق دولى يلزم واشنطن بعدم المساس بكوبا، غير أن جوانتنامو ظلت كشوكة في خاصرته، وعلى مدى خمس عقود أمضاها على رأس السلطة الحاكمة في كوبا، تحول كاسترو إلى مُلهم الملايين من أبناء شعبه، ورمزا عالميا ضد الهيمنة الأمريكية. فرضت جزيرة جوانتنامو نفسها على الأحداث عندما تعرضت الولاياتالمتحدةالأمريكية لأحداث 11سبتمبر عام 2011، ثارت ثائرة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن، وقرر تحويل الجزيرة إلى أشهر معتقل يأوي أخطر إرهابى العالم، ومن بين جدران المعتقل خرجت أكثر الصور بشاعة تعكس ضراوة التعذيب لأكبر دولة تدعى مساندتها لحقوق الإنسان في العالم، وهو ما جعل منظمة العفو الدولية تصفه بأبرز مظاهر الهمجية فى هذا العصر. كان عام 2008 فارقا بالنسبة لكوباوالولاياتالمتحدة معا، فكاسترو قرر ترك السلطة لأخيه راؤول، بينما كان بوش يلملم أوراقه لمغادرة البيت الأبيض، الذى تهيأ لاستقبال أول رئيس أسود ينتمى للحزب الديمقراطي، أوباما كان قد أعلن في جولاته الانتخابية عن نيته إغلاق المعتقل الذي رآه سبه في جبين الأمة الأمريكية . وبعد تسلمه السلطة بيوم واحد فى 21 يناير 2009 أمر أوباما بتعليق المحاكمات في معتقل جوانتانامو لمدة 120 يوما، فى تراجع عن تعهداته السابقة، وظل المعتقل على حاله فى استقبال واستجواب أخطر المطلوبين لدى الولاياتالمتحدة. وعشية تأبين مانديلا فى العاشر من ديسمبر 2013 تصافح أوباما وكاسترو لأول مرة، وأعتبر البعض هذه المصافحة إيذانا بذوبان ما تبقى من جليد الحرب الباردة، وبعد عامين تقريباً من المصافحة الأولى فى 2015 التقى الرئيسان خلال قمة الأمريكتين، وتحدّثا على هامش المؤتمر عن إعادة العلاقات الأمريكية الكوبية لإنهاء عقود من العداوة. وفى 14 أغسطس 2015 تم افتتاح السفارة الأمريكية في هافانا لإنهاء 54 عاما من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، بمشاركة وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى، تزامنا مع احتفال الرئيس الكوبي السابق "فيدل" بعيد ميلاده ال 89 ، حينها صرح قائلا: "أنا لا أثق بسياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولم أتبادل معهم حديثًا، ولكن ذلك لا يعني أنني أرفض حلًا سلميًا للصراع معهم". اليوم ومع مرور 113 عاما على استيلاء الولاياتالمتحدة على جوانتانمو، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أن وزارة الدفاع ستتقدم إلى الكونجرس الأمريكي بخطة لإغلاق معتقل "جوانتانامو" منهيًا بذلك فصلاً في تاريخ الولاياتالمتحدة. وقال أوباما - في كلمة ألقاها اليوم - إن معتقل جوانتانامو أثبت على مر السنين أنه لا يدعم الأمن القومي الأمريكي بل يقوضه، كما اتضح أن له نتائج عكسية على الحرب ضد الإرهاب إذ تستخدمه العناصر الإرهابية كوسيلة دعائية لتجنيد عناصر جديدة، ويضر بشراكة الولاياتالمتحدة مع حلفائها الذين تحتاج واشنطن إلى التعاون معهم ضد الإرهاب. وأشار إلى أن المعتقل الواقع في كوبا يستنزف الموارد الأمريكية إذ أنه تم إنفاق نحو 350 مليون دولار في العام الماضي وحده لإدارته زائد 200 مليون دولار تكاليف إضافية للإبقاء عليه مفتوحًا في الوقت الذي لم يعد به سوى 91 معتقلاً فقط. ولفت الرئيس الأمريكي إلى أنه بعد 15 عامًا من هجمات 11 سبتمبر، لم يصدر حكم واحد ضد المعتقلين المحتجزين هناك، موضحًا أن خطته تقضي بالاستمرار في تأمين نقل نحو 35 معتقلاً من المعتقلين المتبقين إلى دول أخرى وذلك بعد مصادقة مختلف الأجهزة الفيدرالية على نقلهم وضمان اتخاذ الدول الأجنبية إجراءات أمنية مشددة حيال انتقال المعتقلين إليها. كما تدعو الخطة إلى تسريع وتيرة مراجعة قضايا باقي المعتقلين لتحديد ما إذا كان استمرار اعتقالهم ضروريًا للأمن القومي الأمريكي آخذين في الاعتبار المعلومات الاستخبارية الراهنة. وشهدت الآونة الأخيرة قيام الولاياتالمتحدة تسليم عدد كبير من سجناء المعتقل إلى عدة بلدان أخرى، وسط التوقعات من أن هذا الإخلاء قد يكون فى اطار تسليم الجزيرة إلى كوبا مرة أخرى مقابل التطبيع الكامل بين البلدين . تصريحات أوباما اليوم بشأن جوانتانمو جاءت متزامنة مع إعلان وزير خارجيته كيرى عن نيته زيارة هافانا خلال أسبوع أو أسبوعين لإجراء محادثات حول حقوق الإنسان.