"ثمة أشياء تدفعك للكتابة، ربما أكثر من قدرتك على اتخاذ قرار بموقف ما عصيب.. أنت توقن أنها لحظة تشبه المخاض في استحالته، ولها التفاصيل الموجعة نفسها، وعليك أن تتأهب لها". هذا ما تقوله الكاتبة حرية سليمان في حديثها ل"بوابة الأهرام"، التي صدرت لها أخيرًا رواية "أسود دانتيل" عن دار "نون" للنشر والتوزيع. وتضيف حرية سليمان مسترجعة دوافعها للكتابة: ربما كل خلية تشحذ طاقتها لتستقبل الحدث، فتتهيأ كليا، تتحرك ضلوعك، ترتبك أنفاسك، ترتجف وتتقلص عضلاتك، تبحث عن أشياء في غير أماكنها، ترتب أو تبعثر، تتمدد أو تنكمش، تستحضر طقوسك اللازمة، أنت فقط الآن تكتب. أشياء تتدافع من كل صوب لتلقي بظلالها ولتمنح روحك مواسمها، تجارب بعيدة، شخوص راحلة، أحداث وصور، كل ما تعرفه حينها أنها عذابات توشك أن تولد، أو أنك بالفعل ولدت لتكونها. تلك هي الحرية، وهذا هو التحليق. لكن شيئا محددا وضعني بهذه الصورة، ربما طفولة بعيدة اقترنت بهذا العالم الصاخب الهامس جدا، الحي الكامن جدا، البارد والدافئ جدا جدا. لم يكن اختيارا، تقول حرية سليمان، على ما أظن، فكوني وقتها ابنة لأب شاعر منح الصورة هذا الدفء وبعضا من رتوش الكمال. نعم، إنه الهدف الذي تشكل بمخيلتي، وربما أكون بالفعل ولدت لأجله، والذي منح اسمي معنى أكبر من حدود حروفه الأربعة. وعن مدى تأثرها في كتابة أعمالها السردية بالشعر، تقول حرية سليمان: الشعر بتراكيبه المدهشة أوغل بعمق في القصة كما بالرواية، ويمكن الجزم تماما بأن الشعر والرواية هو بالضرورة عالم مكتمل الرؤى، فأنت حين تطالع رواية خطها شاعر توشك فعلا على الوصول لأبعد من شكل الكلمات ومعناها المجرد، تدق بقوة أبواب المجاز لتنتزعك من ذاتك. أنت قادر على إرباك اللحظة بمفاهيم جديدة. كم من كتاب برعوا فيما سماه النقاد بالقصة الشاعرة، ولعل يحيى الطاهر عبد الله أفضل من جسد تلك العوالم المدهشة، فنحن بصدد سماوات تئن وأشجار تثمر قلوبا وصغارا، وجدران تتكلم وشخوص مجردة تحتمل التجريب. محمد المخزنجي أيضا حطم التابوهات المتعارف عليها بفن القص، ليدشن مدرسة تخصه، فقدم عوالم ثلجية ناطقة استنطق فيها الحجر وجذوع الأشجار، أنبت لأبطاله أجنحة وللنوارس ألسنة ووجوها وللعواصف أذرعا وشفاها. طارق إمام وأسامة جاد ومحمد عبد النبي كتاب برعوا في هذا المزج، وما زالت القائمة طويلة. ولا أنكر أن مدرسة النثر، تقول حرية سليمان، قدمت قصائد مرئية بكلمات هي الأقرب للبساطة والتجريد، وربما أن البعض يمكنه تناول عوالم النثر المذهلة كنماذج لقصص قصيرة غاية في الإبهار، لا يمكن في الحقيقة أن أنكر أيضا أن لكل عصر نماذجه وكتابه ونقاده وأن الحياة على صخبها وضجيجها وكل ما تفرزه يوميا لتضعه على طاولة الأدب أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال. وحول ما تحلم به للرواية خصوصًا والأدب عامة، تقول حرية سليمان: لم يكن غريبا في الآونة الأخيرة أن تحتل الرواية تلك الأهمية، الأزمة تكمن أحيانا في توجيه القارئ نحو نوع معين من القراءة بهدف التركيز على نمط ما. الأغرب ان الفئة العمرية للقراء هي ما تحدد انتشار نوع على حساب غيره، وإن افتقر للنضج أو الفكرة التي ترتبط لدي وبشكل أساسي بالمضمون، لكن هل يليق بمبدع استغرقته تجربة الكتابة لأعوام أن يغفل القارئ عن مشروعه لمجرد أن بعض الكتابات الشبابية الخفيفة تلقى القبول أكثر؟ ولأي مدى، تتساءل حرية سليمان، تظل تلك الفجوة بين النقد والمشاريع الأدبية الجديدة عاملا مساعدا في ضياع مئات من الكتابات الجيدة تحت وطأة التجاهل؟ كثير من الأسئلة تتزاحم برأسي كلما طرقت هذا الباب، فالأدب الإنساني سيظل هدفا في حد ذاته، والكثير من العلوم الإنسانية رسخت لنفسها بقوة وأصبحت الأزمة تعني قارئا ضحل الثقافة غير قادر على التواصل ولا الاستيعاب. ويظل حلم الأديب الأكبر الوصول لقاعدة قراء عريضة من دون التنازل عن أدواته التي عكف طويلا على صقلها. وعما إذا كان هناك خط يجمع بين روايتها "أسود دانتيل"، و"الأسود يليق بك" للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، تقول حرية سليمان: لم تكن هناك أي خطوط تربط العملين، ربما هذا التشابه اللفظي، الذي أراه بعيدا كل البعد عن المضمون. لا أمتلك تلك النعومة الفائقة كما بكتابات مستغانمي، هذا ليس الأسلوب الذي اخترته لكتاباتي. غير أن عنوان روايتي له معنى مختلف، فالدانتيل تلك الخامة الكاشفة الساترة، والأسود بكل فخامته وقتامته رمز الشجن وعنوان الأحزان. ولو اتفقنا في أنها كتابة أنثوية، فلربما يظل الرجل بظلاله السرمدية عنوان البحث وسر الأسرار. وحول حضورها في مواقع التواصل الاجتماعي روحًا محلقة بين الأصدقاء، تقول حرية سليمان: هذا التفاعل المباشر بيني وبين الأصدقاء من أهم أسباب استمراري، بل إنه ربما يدفعني للكتابة ويستفز طاقة التعبير.. هناك ما يعرف بالكتابة التفاعلية، وهذا تحديدا ما يحدث، تكتب عبارة قوية تستفز مشاعرهم فيكتبون عبارات أخرى مدهشة على النسق ذاته كمحاولة للاسترسال. ربما يظن البعض أنه لا يمكن القياس على مستوى المتلقين بمواقع التواصل الاجتماعي لصغر سنهم، أو ربما لأنهم يوجدون غالبا لمجرد تمرير الوقت، غير أنني أجد ذلك وسيلة مهمة من وسائل تحقيق الذات وآلية من مهام التسويق، هذا إن اعتبرنا جدلا أن الكتاب سلعة يلزم أن تتابعها يوميا فلا يصيبها الركود. نعم، حلم الانتشار يراودني، لكنني اخترت طريقا وعرا يعتمد اللغة كأساس، فليس من السهل أبدًا الحضور بمحيط يفرز مئات الكتاب يوميا لتتخم الرفوف بإصدارات لا يستحق أغلبها ثمن الورق ولا عناء القراءة.