في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، التي تحمل رقم 103، ينشر "المقهى الثقافي" بعض شهادات كتّاب ومبدعين حول أديب نوبل. القاصة والكاتبة سامية بكري تقول في شهادتها التي تحمل عنوان "أجمل ذكرى احمرار وجه".. علاقتي به وقتها لم تكن تتعدى قراءة عملين له، هما: بين القصرين والحب فوق هضبة الهرم. كان قد حصل على جائزة نوبل منذ فترة وجيزة وأصبح ملء السمع والبصر، وكنت مازلت طالبة في عامي الجامعي الأول بكلية الإعلام، حيث أقحمت نفسي أنا وبعض الزملاء في تحرير موضوع صحفي لمجلة صوت الجامعة التي تصدرها الكلية ويكتب فيها طلبة قسم الصحافة بالسنة الثالثة والرابعة وأساتذتهم. طلبوا منا إجراء حوارات مع عدد من الأدباء المشاهير، وكعادتي انسحبت من لساني وقلت بثقة: سآتي لكم بحوار مع نجيب محفوظ. سهرت طوال الليل أفكر في كيفية لقائه، وكنت قد قرأت عن برنامجه اليومي الذي يبدأ بالمشي في السابعة صباحًا من منزله بالعجوزة حتى مقهى علي بابا بالتحرير. اتصلت أولاً بجريدة الأهرام حيث مكتبه لكي أحدد موعدًا للقائه، فإذا بهم يؤكدون أن أمامي لأقابله شهرًا. قررت أن أخوض أولى مغامراتي الصحفية ووجدت أن الظروف مناسبة، فالهدف يسكن في العجوزة على مسافة غير بعيدة من منزلي بإمبابة، وليس علي سوى متابعته للظفر به وإجراء الحوار معه. في الصباح الباكر ارتديت فستانًا شتويًا من الصوف الأخضر، وركبت أول اتوبيس إلى العجوزة، أخذت أفكر طوال الطريق: كيف سيقابلني؟ هل سيكون قاسيًا وخشنًا ،ولكنه حنون وطيب مثل سي السيد؟ هل سينظر لي نظرة رجل لامرأة، أم نظرة كائن قوي لديه الشهرة والنجاح والإبداع لطائر ضعيف قلق مازال ينقر جلد لحياة السميك بمنقاره الصغير؟ هل سيتحمس لموضوع الحوار؟ هل يعجب بجرأتي وإقدامي فيوافق على أن أجري معه حوارًا شاملا حول أدبه؟ هل سيختبر معرفتي بشخوص رواياته؟ هل سيسألني إن كنت قرأت له؟ لم أجد لكل هذه الأسئلة إجابات، ولكني وعدت نفسي بحوار شيق مع أديب عالمي. عندما وصل الأتوبيس إلى المحطة المقابلة لمنزله نزلت، لم يكن قد حان بعد موعد نزوله اليومي من البيت، قبعت هناك بجوار أحد الأعمدة حتى لا يراني أحد. انتظرت حتى أراه خارجًا من باب العمارة. حاولت أن أجمع بعضي على بعضي ففشلت، لم أستطع الاقتراب منه، قررت أن أسير خلفه حتى تحين الفرصة المواتية فأكلمه، وبدأ يسير وأنا خلفه بمسافة معقولة. أخذت أتأمل سيره الهادئ وخطواته الرزينة وانحناءته المحببة، كان الناس يشيرون له طوال الطريق وهو يحييهم بيده ويبتسم مكملا سيره فوق كوبري قصر النيل. تابعته دون أن يشعر حتى وصل إلى مقهى على بابا. عندما صعد إلى الطابق العلوي للمقهى وقفت في الخارج أتنفس الصعداء، وأفكر في الخطوة المقبلة. تسللت داخلة إلى المقهى، ثم صعدت إليه، وبحذر اقتربت من طاولته. - صباح الخير يا أستاذ إزي حضرتك. - صباح الخير. -انا سامية بكري طالبة في أولى إعلام وعايزة أعمل حديث صحفي مع حضرتك. -لا ما ينفعش هنا روحي الأهرام وخدي ميعاد فيه ناس دلوقت وظيفتهم يرتبوا مواعيدي. - بس يا أستاذ أنا مستعجلة عشان مواعيد طباعة المجلة و.. -لا اتفضلي روحي الأهرام، "قال الجملة الأخيرة بنفاد صبر". انصرفت ولدي إحساس أن فستاني الأخضر تحول إلى اللون الأحمر، فيما احتفظ بخامته الصوفية، لأصاب بموجة غزيرة من العرق والاحمرار وأنصرف من أمامه مسرعة. أخذت ألوم نفسي تارة على سوء تصرفي وقصر نظري، وألوم الأستاذ تارة أخرى وأتساءل: ألم يكن في مقدوره حتى أن يقول لي: تفضلي اشربي فنجان قهوة؟ والله ما أنا رايحة لا أهرام ولا غيره، إزاي هاقابله بعد كده؟ لم أره بعد ذلك لمدة طويلة، حتى نسيت "زعلي" منه، وعدت للاستمتاع برواياته، والتسلل مع إحدى صديقاتي إلى مجلس حرافيشه بكازينو قصر النيل. رحمة الله عليه أعطاني أطرف مغامرة صحفية، وأجمل ذكرى احمرار وجه في حياتي.