تبدل وجه السياسة في مصر منذ تخلي الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن الرئاسة يوم 11 فبراير، لكن أفق الانتخابات البرلمانية المقبلة قد يدفع بفلول الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يحكم البلاد وبجماعة الإخوان المسلمين إلى واجهة المشهد السياسي في الوقت الحالي. وكثير من المصريين ممزقون بين الرغبة في الاستقرار من ناحية والرغبة في التطهير الكامل للنظام مما قد يطيل أمد الاضطرابات التي كلفت الاقتصاد المصري مليارات الدولارات من جهة أخرى ففضلوا ما كان موجودا في السابق. وهذا هو ما أشارت إليه نتيجة استفتاء على تعديلات دستورية أجري يوم 19 مارس عندما صوتت نسبة 77 في المئة تقريبا لصالح التعديلات التي وضعتها لجنة عينها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يتولى إدارة شئون البلاد. ومال إصلاحيون أكثر تمسكا بمطالب الثورة وبينهم مجموعات شبان قادت الاحتجاجات التي أطاحت بمبارك وبدأت يوم 25 يناير كانون الثاني إلى التصويت بلا في الاستفتاء للبدء على الفور في وضع دستور جديد لمصر. وبالنسبة لهؤلاء فإن الثورة لم تكتمل بعد. لكن حقيقة مشاركة المصريين في تصويت لا تعرف نتيجته سلفا هي دليل على تحول مصر بعد 30 عاما من تزوير الأصوات والقمع الذي كانت تمارسه الشرطة والفساد في عهد مبارك. وقال مصطفى السيد أستاذ العلوم السياسية إنه دون شك حدث تطور كبير مثل تعديلات في الدستور وقانون جديد للأحزاب السياسية وحرية التعبير التي أصبحت مكفولة لكن هناك حاجة لعمل المزيد. وأضاف أن نتيجة الثورة ستظهر بعد الانتخابات والسؤال هو هل سيصل من قاموا بالثورة إلى الحكم للقيام بما يريدون أم تصل إلى السلطة فلول النظام السابق أو الإسلاميين؟ وليس أمام مجموعات الشبان وحركات الاحتجاج الأخرى التي جذبت ملايين المصريين إلى الشوارع عبر الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي سوى وقت قليل قبل إجراء الانتخابات البرلمانية المقررة في سبتمبر أيلول حتى يشكلوا أحزابا سياسية. وتتمتع جماعة الإخوان المسلمين بقاعدة عريضة على الرغم من عقود من القمع الذي تعرضت له في عهد مبارك مما يجعلها الأكثر استعدادا لخوض الانتخابات المقبلة. وفرص فلول مجموعة الشخصيات الشهيرة في الحزب الوطني في المناطق الريفية ومسئولي المجالس المحلية ورجال الأعمال قوية أيضا. وفي مسعى لتهدئة المخاوف قال الإخوان إنهم لن يسعوا إلى الفوز بأغلبية برلمانية في هذه الانتخابات ولن يكون للجماعة مرشح للرئاسة. وقال سيد أبو العلا من حركة شباب ثورة 25 يناير لرويترز إن الثورة لم تكتمل على الإطلاق مضيفا أنها لم تحقق سوى عشرة في المئة من مطالبها. وأضاف أن المصريين تراجعوا وأن عزيمتهم تحولت إلى ثورة إصلاح وليس ثورة تغيير لكن الشبان سيمضون في الدفع تجاه التغيير. والطريقة التي ستدير بها مصر التحول سيكون لها التأثير الأكبر. وربما تكون الثورة التونسية سبقت الاحتجاجات المصرية وتتصدر ليبيا عناوين الصحف بسبب الصراع العنيف الدائر فيها لكن التطورات في مصر أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان سيكون لها صدى أكبر في شتى أنحاء الشرق الأوسط. وقال كمران بخاري وهو مسؤول إقليمي في شركة ستراتفور لاستشارات المخاطر السياسية "ما يحدث في مصر مهم للغاية بالنسبة للمنطقة. وإذا كان هناك استقرار في مصر فإن ذلك ينعكس على الآخرين. إنها (مصر) مثل القدوة." ولم يظهر الجيش المصري رغبة في البقاء في الحكم على الرغم من أن البلاد حكمتها شخصيات لها خلفية عسكرية منذ ثورة يوليو تموز 1952 . ودفع الجيش باتجاه إجراء انتخابات سريعة. لكن حتى عندما يعود الجيش إلى ثكناته فإنه من المتوقع أن يظل في الخلفية. وقال بخاري إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد يلعب دورا سياسيا من وراء الستار مثلما فعل الجيش التركي لعقود أو مثلما يفعل الجيش الباكستاني إلى الآن. وقال دبلوماسي غربي "الثورة التي يتحدث عنها الناس غير مكتملة كثيرا. إنهم أطاحوا بالرئيس ونقلوا السلطة إلى القوات المسلحة." لكن التغييرات السياسية التي تشهدها البلاد لا تزال كبيرة حيث وضع مبارك وأسرته رهن الاقامة الجبرية داخل مصر في منتجع شرم الشيخ كما تمزق الحزب الوطني وألغي جهاز أمن الدولة الذي كان يثير الخوف في نفوس المصريين وتخلو حكومة رئيس الوزراء المصري عصام شرف من أي شخصية لا يقبل بها من قاموا بهذه الثورة. والعديد من الوزراء السابقين وغيرهم من كبار المسؤولين السابقين في الحزب والحكومة محتجزون ويتم التحقيق مع آخرين لاتهامات بشأن تعاملاتهم التجارية. وأخذت ملامح أحزاب جديدة من أطياف متنوعة في الظهور ومن بينها حزب يمثل جماعة الاخوان. وقد لا ترتقي التعديلات الدستورية إلى السقف الذي يريده من هم أكثر تمسكا بمطالب الثورة لكنها تعيد تشكيل الساحة بالطبع. وتقصر التعديلات الدستورية الرئاسة على فترتين تمتد كل منهما لأربع سنوات وتسهل الأمر على خوض المستقلين انتخابات الرئاسة كما تضمن الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات وهي ضمانات تكفل منع التزوير الذي مارسه الحزب الوطني والشرطة في عامي 2005 و2010. وما زال البعض يرى أن هناك حاجة لفعل المزيد إذ لم ترفع حتى الان حالة الطواريء التي فرضها مبارك بعد اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981 لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعهد برفع حالة الطواريء قبل الانتخابات البرلمانية دون أن يحدد موعدا لهذا. ومن بين النقاط التي تثير مخاوف متصاعدة قانون لتجريم الاعتصامات والتجمعات الحاشدة. وتقول الحكومة إنه يهدف إلى وقف موجة احتجاجات على تدني الأجور عرقلت الاقتصاد بينما يرى فيه نشطاء أنه انقضاض على حرياتهم التي عادت إليهم أخيرا. وإعادة الاقتصاد المصري إلى مساره من أكبر التحديات أمام من يحكم مصر أيا كان. ويريد الشبان المصريون مزيدا من الانفتاح السياسي وفرص اقتصادية جديدة بدلا من التفاوت في توزيع الثروات والذي نما كثيرا في عهد مبارك. وحدد أحمد البرعي وزير القوى العاملة والهجرة في حكومة شرف حجم التحدي في تلبية هذا الطلب. وقال إن نسبة البطالة في مصر تصل إلى 19 في المئة أي قرابة ضعف ما أعلنته حكومة مبارك. وسيقلل تعطل الاقتصاد منذ يناير النمو الاقتصادي للبلاد إلى ما بين 3.5 وأربعة في المئة من الناتج القومي في العام الذي ينتهي في يونيو حزيران بعدما كانت التقديرات تذهب إلى نحو ما بين 5.8 وستة في المئة. ويقول محللون إن مصر بحاجة إلى نسبة نمو اقتصادي تصل إلى ستة في المئة على الأقل لتوفير ما يكفي من فرص العمل. وتدخل السياحة عادة أكثر من عشرة مليارات دولار سنويا إلى الخزانة المصرية وبدأت منذ وقت قصير في التعافي بعد خروج عدد كبير من السياح من مصر في يناير. ويراقب المستثمرون الأجانب الذين كانوا يشاركون بمليارات الدولارات في الاقتصاد الأوضاع لحين اتضاح المستقبل السياسي لمصر بشكل أكبر. وعملت العديد من المصانع بأقل بكثير من طاقتها في فبراير شباط بسبب حظر التجول وانعدام الأمن. وإذا مضى من يريدون إصلاحا سياسيا أعمق في مسعاهم فإن الجماعات الجديدة خاصة الليبراليين ومن يعارضون أجندة الاخوان المسلمين يحتاجون للوقت لتنظيم صفوفهم وتحريك أنصارهم بعد عقود من الإقصاء. وقمع مبارك بشدة الليبراليين حتى يصور أن الاخوان هم البديل الوحيد أمام حكمه الشمولي وهو خيار نجح في أن يضمن له دعم الغرب الذي أبدى تخوفه من وصول الاسلاميين إلى حكم مصر. ويشير تحليل نتيجة الاستفتاء إلى أن الأصوات الرافضة للتعديلات الدستورية تركزت في المناطق الحضرية التي تتمتع بنسبة متعلمين كبيرة مما يعني أن رؤية الشبان الذين شاركوا في الثورة لم تلق صدى كبيرا في المناطق الريفية التي تنتشر فيها الأمية ولا يهتم فيها الناس كثيرا بالشؤون العامة. وسارع الليبراليون إلى إلقاء اللوم في أدائهم الفقير قبل التعديلات على مخاوف نشرها محافظون وذهب بعضها إلى أن التصويت بلا في الاستفتاء يعني إطالة مدة الفوضى. وقال كثيرون ممن صوتوا بنعم في الاستفتاء إن قرارهم لم يكن بإيعاز من الإسلاميين أو قوى سياسية أخرى وإنما بدافع الرغبة في العودة بسرعة إلى الحكم المدني والتأكيد بشكل أقوى على القانون والنظام وتحفيز الاقتصاد. وقال محمد مصطفى الذي صوت بنعم في ضاحية المعادي بالقاهرة إن دعوات إصلاحيين أكثر تشددا لوضع دستور جديد ستسغرق الكثير من الوقت. وأضاف "لذا يجب أن نرجيء هذا الأمر إلى وقت لاحق. نحتاج أن تمضي البلاد قدما الآن." وقال المدون المصري محمود سالم وهو ليبرالي يعارض مبارك في كتاباته منذ سنوات ويستخدم اسما مستعارا هو (ساندمانكي) إن حركة الاحتجاج فقدت التواصل مع تطلعات الناس العاديين. وكتب قائلا "تهتمون بالثورة واعتقال رموز الحزب الوطني الديمقراطي ووضع البلاد على المسار الصحيح وهم يهتمون بالأمن الاقتصادي وعودة الاستقرار والحياة الطبيعية بأسرع طريقة ممكنة.