ضمن احتفالات مصر بالعيد ال 37 لانتصارات أكتوبر تشهد منطقة أهرامات الجيزة هذه الأيام عرض أوبرا عايدة، التي ألف موسيقاها الإيطالي "جوزيبي فيردي"، الملقب بملك الأوبرا، الذي عاش معظم حياته في مدينة ميلانو الإيطالية، ومازال حاضرا هناك رغم مرور أكثر من قرن على وفاته. ارتبط فيردي بمصر منذ تأليفه لموسيقى أوبرا عايدة، التي تم تقديمها للمرة الأولى علي مسرح دار أوبرا القاهرة في الأسبوع الأخير من ديسمبر 1871، وكان الموسيقار الإيطالي العالمي وضع موسيقى أوبرا عايدة، مقابل 150 ألف فرنك من الذهب، ليتم تقديمها بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869، ومن أجل هذا الحدث الفريد كان الخديوي إسماعيل، والي مصر في ذلك الوقت، أمر ببناء دار الأوبرا المصرية، لكي تقدم عايدة علي مسرحها، وبسبب تأخر وصول الملابس والديكورات، التي تم تصميمها في باريس وتكلفت 250 ألف فرنك، جرى استبدال عايدة بأوبرا "ريجوليتو" وهي أيضاً من مؤلفات فيردي. ومنذ تقديم أوبرا عايدة للمرة الأولى ذاعت شهرتها، ووضعها كثير من المخرجين الكبار في قائمة ما يقدمون، وكانوا يطلبون من فيردي أن يقود الأوركسترا بنفسه، وما زالت عايدة حتى الآن تعتبر من أنجح الأوبرات في العالم وأكثرها عرضاً، لأنها تتحدث عن قصة حقيقية حدثت في مصر الفرعونية، التي يعشق العالم حخضارتها، حيث اكتشف مخطوطات "عايدة" عالم الآثار الفرنسي "أوجست ماريتا"، وكانت عبارة عن قصة من أربع صفحات، اعتمد عليها عالم المصريات الفرنسي ميريت باشا في كتابة أوبرا عايدة، وكتب نصها الغنائي "جيسلا نزوني"، قبل أن يتسلم فيردي النسخة المترجمة ليضع لها الموسيقى. ولد "جوزيبي فيردي" في بلدة "رونكول" القريبة من مدينة بارما بشمال إيطاليا عام 1813 لعائلة متوسطة، فوالده كان يعمل نادلاً ثم مديراً لفندق متواضع في قريته، وكان فيردي يعمل مع والده، في سن السابعة كان مساعد عازف الأورجن في كنيسة بلدته، وفي سن الثالثة عشرة أصبح عازف الأورجن الرئيسي في كنيسة بلدة "بوسيتو" المجاورة لمسقط رأسه. ومن المدرسة الموسيقية الكنسية تدرج فيردي إلى المعهد الموسيقي بمدينة ميلانو، ليصل الشاب الموهوب إلى درجة أكاديمية عالية، وبعد زواجه في عام 1836 من "مارجاريتا باريزي" بثلاث سنوات قدم فيردي عمله الأوبرالي الأول "أوبيرتو" في ميلانو، حيث لاقى قبولاً معقولاً من الأوساط الفنية، بعده قدم عمله الأوبرالي الثاني "أون جورنو دى فينو"، الذي فشل فشلاً ذريعاً، في غضون عامين قدم عمله الأوبرالي الثالث ليشهد نجاحا كبيرا، ويطوف أوروبا والعالم الجديد، ومن ثم أخذ الدفق الإبداعي لرجل الأوبرا بالتوالي والانتشار ليحدث حالة أشبه بالاعصار في عالم الأوبرا، وتوالت نجاحات فيردي. وهناك قاعدتان استطاع الموسيقار الإيطالي أن يكسرهما، الأولى أن المشاهير لا يلقون اهتماماً خلال حياتهم، حيث احتل فيردي دائما مكانة مرموقة في قلوب الإيطاليين، الذين فرشوا وسط مدينة ميلانو بالقش حتى لا تزعج حوافر الخيول وعجلات العربات التي تجرها ملك الأوبرا العجوز وهو في فراش الاحتضار في جناحه بفندق "جراند أوتيل دي ميلان"، وقد أعاد أبناء مدينة ميلانو فرش القش في الشوارع نفسها، خلال الاحتفالات بمرور مائة عام على وفاته. والقاعدة الثانية التي استطاع مؤلف أوبرا عايدة أن يحطمها أنه جعل فن الأوبرا فناً لعامة الشعب، وليس فناً للصفوة كما يعتقد الكثيرون، بل يتغني بألحانه المحبون في "نابولي" ويردد أغانيه مراكبية الجندول في "فينيسيا"، وعمال المصانع والبناء في "ميلانو"، وحين توفي فيردي في سن ال87 كان يعتبر أكثر الرجال شعبية في إيطاليا كلها، حيث أن مكانة فيردي المميزة في وجدان الإيطاليين لم تقم علي عبقريته الموسيقية وحدها، وإنما أيضا علي نشاطه القومي الذي جعله يتحول إلي رمز للوحدة الإيطالية، التي كان من أشهر أنصارها، حتي أصبحت صيحة يعيش فردي "Viva Verdi"، التي كان يرددها جميع أفراد الشعب الإيطالي، صيحة وطنية تساوي الهتاف بحياة الوطن وبحياة فيكتور إيمانويل، أول ملك جلس علي عرش إيطاليا بعد توحيدها. ومات فيردي بعد معاناة من سكتة دماغية أجهزت عليه في 21 من يناير عام 1901 وترك وراءه 32 عملاً أوبرالياً كان آخرها في عام 1893 باسم "فالستاف" وهو مستلهم من الروائع الشكسبيرية، وفي السابع والعشرين من يناير شهد قرابة 28 ألف شخص جنازة رجل الأوبرا العجوز والعبقري، الذي تتحدث عنه أفئدة الإيطاليين وتعالى اللحن الجنائزي في أرجاء إيطاليا، حداداً على رجل عبث في ماهية الخير والشر في إبداعه وشرب نخب الحياة المر، بزهو الباحث عن حقيقة الوجود، وهذا ما جعل أعمال فيردى الأوبرالية تجد حيزا لها في قلوب الناس في كافة بقاع الأرض، على مختلف ثقافاتهم من النقاد وحتى عمال البناء إلى الآن، و لا تزال إيطاليا تنظر إلى فيردي كشيخ الأوبرا وتستوحي أعماله. ورغم مرور أكثر من قرن على وفاة فيردي مازالت آثاره باقية في كل شبر من مدينة ميلانو التي أحبها وقضى بها معظم حياته، ويعتبره سكانها علامة فارقة في تاريخها، بل وتاريخ إيطاليا كلها، وهو ما جعل تماثيله منتشرة في أنحاء المدينة، أهمها تمثال نصفي من البرونز، يتصدر مدخل المقابر التاريخية، التي تجمع رفات مشاهير المدينة من الأمراء،الذين حكموا المدينة، إلى الفنانين والموسيقيين العظام أمثال توسكانيني وغيره. وفي وسط المدينة توجد دار أوبرا "لاسكالا" العريقة، التي تم إنشاؤها عام 1778 وشهدت عرض أعمال فيردي الأوبرالية، وفيها كان عرض أوبرا عايدة للمرة الأولى خارج مصر عام (1872)، وبلغ نجاحها أن ارتفعت الستار عن فيردي 32 مرة في نهاية العرض، بل إن أهل ميلانو قدموا له أزراراً ذهبية نقشوا عليها اسم عايدة بالألماس. هذا المسرح مازال يشهد كل عام عرض إحدى أوبرات فيردي الشهيرة، وعلى بعد أمتار قليلة يوجد فندق "جراند أوتيل دي ميلان" وهو الفندق الذي عاش فيه فيردي منذ عام 1872 وحتى وفاته، بالجناح رقم 105 الكائن بالدور الأول من الفندق العتيق، الذي تم افتتاحه عام 1863 ومازال يحمل نفس طابعه القديم، ولم يرتفع بناؤه عن أربعة أدوار، في هذا الفندق مات فيردي وترك كل متعلقاته التي نقلت بعد ذلك إلى متحف "بيت الموسيقيين"، حيث دفن فيردي مع مشاهير الموسيقى الإيطالية.