احتسبك عند الله ولدى من الشهداء – وأهدى روحك الطاهرة إلى خالقها – توقفت الأيام والليالي عند رحيلك – فى القلب غصة وفى الحلق مرارة – والعين تنزف دما والقلب ينفطر فى الثانية ألف ألف مرة – انطفأ قنديل البيت المتواضع – اغتالته رصاصة من يد آثمة، لطخت بدماء شهيد الأرض وعريس السماء – راح من كنت أتوكأ عليه.. مات الولد والسند والحبيب والصديق. ضاقت الدنيا بعد رحيله وباتت كثقب الإبرة عدت كعود أخضر فى أرض جدباء .. لا أسمع سوى صوته لا أرى غير صورته، أنفاسه الطاهرة تهفو على، أناديه لم يرد، أنتظره لن يرجع . أحتضن ملابسه وأشمها كى أثلج صدرى وتبرد النيران الملتهبة فى قلبى. كل أشياء تسأل عنه: تليفونه المحمول، اللاب توب، نظارته الشمسية حتى وسادته تسأل أين الحبيب.. حتى الجدران اتشحت وكأن كل شىء فى البيت الصغير أعلن الحداد على الشاب الشهيد. تخرج الشهيد أحمد على عبد الله (26 سنة ) من كلية الهندسة جامعة حلوان وتخصص فى التصميم المعمارى. كان فلذة كبدى يعشق منذ صغره تصميم المبانى وذاكر واجتهد فى الثانوية العامة حتى التحق بكلية الهندسة فرع المطرية وذاكر واجتهد حتى حصل على البكالوريوس، وكان دائما يساعد شقيقته الوحيدة فى مذاكرتها كى تحصل هى الأخرى على بكالوريوس الهندسة ويؤسسا مكتبا للتصميمات المعمارية. أحلام كثيرة كانت تحبو داخلة وبذور الألم كانت تنمو يوما بعد يوم أمامه ولم يدر بخلده أن يدا غادرة سوف تقصف عمره وتقصف بأحلامه.. حصل ولدى على إعفاء من الخدمة العسكرية لأنه الوحيد وتمنى لو له شقيق ليلتحق بالجيش ربما يدافع يوما عن الوطن وينال شرف الشهادة. شهقت شهقة كادت تزهق معها روحى وهو يعبر لى عن تلك الأمنية. تموت يا ضنايا حتى لو شهيد. يا رب يومى يكون قبل يومك." متقولش كده يا أحمد بعد الشر عليك يا عمرى". التحق بأحد المكاتب الهندسية وتنقل من مكان إلى آخر لأخذ الخبرة وبشهادة كبار مهندسيه أجمعوا على نبوغه وسيكون له مستقبل عظيم. صال وجال بخاطره وحلم بالمكتب الكبير وتصميم المدن للشباب الفقير من أمثاله. وكان دائما يشعر بالرضا ويتحلى بمكارم الأخلاق. وكان محبوبا من كل الجيران.. بالفعل كان ابن موت.. صحيح الموت بيختار لكن يا ريته كان اختارني أنا قبله أو معاه. لا أقوى على فراقه أنتظره يطرق الباب فى أى لحظة أقف فى شرفة حجرته لأطل عليه وهو عائد من عمله. أعد الطعام الذى يعشقه، كلماته قبل أن يتوجه إلى ميدان التحرير قبل يوم جمعة الغضب ترن فى أذنى وهو يقبل يدى ورأسى ويسألنى الدعاء له ولزملائه من شباب الثورة ربت على كتفى وضمنى إلى صدره وهو يوصينى بالصلاة والدعاء، وبعد أن نزل بعض درج السلم صعد ثانية وقبل شقيقته وهى نائمة ثم دخل كل غرف الشقة وكأنه يلقى بنظرة الوداع الأخيرة عليها.. أوصانى بأخذ الأدوية وعدم انتظارى على الغداء قائلاً اليوم طويل وسنستمر فى ميدان التحرير حتى يرحل مبارك كلما توجه لباب الشقة جذبته من يده ورحت أبحلق فى وجهه وأربت على كل شبر فى جسده وطلبت منه عدم الذهاب فهو قد اشترك مع رفاقه من اليوم الأول فى ثورة الشباب باحثا عن الحرية وعن عمل فيه استقرار وعن فرصة يحصل فيها على شقة فى الإسكان المتواضع شارك رفاقه لفك أسر 80 مليون مواطن كان مؤمنا بأهداف ومبادئ ثورة الشباب. كان يخرج فى الصباح الباكر ويشارك رفاقه فى ميدان التحرير ثم يعود ليلا كى لا يتركنا بمفردنا أنا وشقيقته لأن والده قد فارق الحياة وهو طفل صغير ولم أستطع منعه من يوم جمعة الغضب وخرج وأنا أجذبه من يده ولأول مرة ترقرقت الدموع فى عينيه وهو يقبلنى، هرولت إلى النافذة لأطل عليه وطلبت منه وهو يسير فى الشارع أن يحافظ على نفسه وأن يكلمني على تليفون المنزل إن أمكن لأن الطغاة قطعوا الاتصال بالهواتف المحمولة شىء من الخوف سكن صدرى لأول مرة وجلست طوال اليوم داخل غرفة ولدى أنظر إلى كل أشيائه. أتذكر كل كلماته حتى جاء المساء ومرت الساعة العاشرة والثانية عشرة والواحدة والثالثة والسابعة صباحا وكدت أفقد عقلى لابد أن شيئا ما حدث لابنى، خاصة بعد أن شاهدت الاعتداء الغاشم على شباب الثورة بميدان التحرير انقبض قلبى وهرولت كالمجنونة فى الشارع أنادى عليه بأعلى صوتى والتفت من حلوى من الجيران وأمطرونى بكلمات الصبر والتريث، ربما يكون نام فى ميدان التحرير خشية من بطش أعداء الثورة. ومر اليوم بأكمله ولسانى لا ينطق سوى اسمه وتوجه شباب المنطقة من زملائه إلى ميدان التحرير للبحث عنه دون جدوى. ومر اليوم الثانى على كالدهر وتيقنت أن مكروها حدث لابنى سألت الله أن يعود إلى أعمى أو مشلولا ولكن قلبه ينبض، المهم ألا يموت ويتركنى أكتوى بنيران فراقة مر اليوم الثانى وجاء صباح اليوم الثالث وأنا أجلس فى الشارع واحتضن البيجامة التى خلعها عن جسده الطاهر قبل خروجه اقترب من باب البيت مجموعة من الشباب غرباء عن المنطقة، سألوا عن شقة المهندس أحمد وسلمونى حافظة بداخلها بطاقته الشخصية وقالوا: البقاء لله أحمد مات شهيد رصاصة غادرة من يد آثمة استقرت فى قلبه وتم نقله إلى مستشفى قصر العينى وفارق الحياة. ياماما متقوليش إنك لوحدك.. كلنا أحمد.. كلنا أبناؤك لم أصدق ما سمعت هرولت كالمجنونة إلى المستشفى ووجدته مثل البدر يرقد داخل المشرحة وابتسامة تعلو وجهه.. لطمت خدودى شققت الملابس ولكن أين المفر؟. لا أزكيه على الله .. ولكن قلبه يرفض موته.. وأتمنى أن يطرق ملك الموت بابى كى ألحق به.