الكف الذي صفع البوعزيزى في تونس والأنامل التي تحركت على لوحات المفاتيح بأجهزة الحاسب في مصر، كانت من أهم الأسباب التى وقفت وراء ما حدث فى البلدين. اليد التي صفعت بوعزيزي كانت نسائية، لكن الأيادي التي دعت عبر الإنترنت للتظاهر في مصر كانت شبابية. الأمر الذى كان بداية ثورتي احتجاج شاركت فيهما جميع طوائف الشعبين التونسي والمصري، من الباعة الجائلين إلى أساتذة الجامعات ، ومن الفلاحين إلى الطلاب، ومن الشباب إلى الشيوخ. في تونس.. أطلقت صفعة على وجه شاب شرارة الثورة فى ديسمبر الماضي وانتهت بالإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي ونظامه، حيث قامت فادية حمدي الشرطية التونسية بصفع الشاب محمد البوعزيزي بعد احتجاجه على مصادرتها لعربته الخاصة التي يبيع عليها الخضار في ولاية سيدي بوزيد في تونس. أقدم الشاب الجامعي العاطل على الانتحار حرقا في سوق بلدته احتجاجا على ما حدث معه، وبعدها اشتعلت الاحتجاجات العارمة من قبل الباعة بولاية سيدي بوزيد، بسبب انتحار البوعزيزي. انضم الأهالي إلى مئات البائعين وتظاهروا في الولاية مطالبين بتحسين الأوضاع الاجتماعية السيئة ومحاربة البطالة، رافعين شعارات مثل "عمل.. حرية.. كرامة"، وتطورت الاحتجاجات إلى اشتباكات مع الشرطة التي استخدمت العنف ضدهم وراح ضحيتها قتيلان. رفض المحامون التونسيون الاعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون من قبل قوات الشرطة، ونظموا وقفات احتجاجية للتضامن مع هؤلاء الشباب، طالبوا فيها بتوفير فرص عمل للشباب العاطل، لكنهم تعرضوا أيضا للضرب من قبل الشرطة فى العديد من المدن التونسية، واشتعلت الثورة في تونس، وكانت مشاركة المحامين في الاحتجاجات ثم الصحفيين دعما كبيرا لثورة تونس. كان للاتحاد التونسي العام للشغل دور كبير في هذه الثورة، حيث أعلن دعمه لمطالب المتظاهرين وأكد أنها مطالب مشروعة، ولذلك خرج آلاف من الاتحاد في مظاهرات ومسيرات احتجاجية تطالب بالحرية والديمقراطية والإصلاحات السياسية. وزحفت الاحتجاجات إلى المحافظات المجاورة رافعة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". بعد سقوط الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة أعلن اتحاد الشغل انسحابه منها وطعن في شرعيتها لمشاركة عدد من الوزراء السابقين فيها، والذين كانوا من أركان النظام الذين لايحظون بشعبية، وطالبوا أيضا بمحاسبة قوات الأمن بسبب استخدامها للعنف ضد المتظاهرين، وإطلاق سراح الشباب المعتقلين، وهو ما كان سببا في إجراء تعديل وزاري واستبعاد بعض أركان النظام السابق. السيناريو نفسه تكرر في مصر مع وجود بعض الاختلافات، فالثورة بدأت في مصر من خلال دعوة على إحدى صفحات موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" اسمها "كلنا خالد سعيد"، وسرعان ما انضم إليها حوالي نصف مليون شخص من شباب مصر، أعلنوا فى دعوتهم أن يوم 25 يناير هو يوم لإعلان غضب الشعب المصري على الأوضاع السيئة في مصر، خاصة تعامل الشرطة مع الشعب. اختيار يوم 25 يناير لم يكن مصادفة لكنه كان عن عمد فهو يوافق الاحتفال ب"عيد الشرطة"، ليخرج كل من تعرض للظلم من قبل الشرطة في مصر، للاحتجاج على التعذيب في السجون وأقسام الشرطة، وتطورت مطالب الشعب بعد ذلك إلى عزل حبيب العادلي، وزير الداخلية السابق. وحاولت الداخلية، تطويق المتظاهرين الذين ردوا بقذفهم بالحجارة مما أسفر عن سقوط قتيل من قوات الأمن المركزي بميدان التحرير بعد إصابته بحجر في رأسه. بدأت المظاهرات السلمية يوم 25 يناير في مختلف أرجاء مصر، لكنها كانت حاشدة في القاهرة والإسكندرية والسويس، والمنصورة، وشمال سيناء والزقازيق ودمياط، وشارك فيها مجموعة من النشطاء والطلاب والصحفيين والمهنيين وحقوقيين وكذلك نشطاء في المجتمع المدني ومثقفون، وعدد من الفنانين المعروف عنهم أنهم معارضون للنظام في مصر، ورفعوا شعار "سلمية.. سلمية". وفي نهاية يوم الخميس 27 يناير تم قطع خدمة الإنترنت والتليفون المحمول عن مصر، حتى لا يمكن التواصل بين الشعب ويخرج عدد كبير إلى المظاهرات، يوم الجمعة. رغم هذه الإجراءات انضم آلاف المصريين من عامة الشعب إلى المظاهرات يوم 28 يناير الذي عرف ب"جمعة الغضب" وحاولت قوات الأمن التي انتشرت في أماكن عديدة ومختلفة، تفريق المتظاهرين بالقاهرة أمام دار القضاء العالي، وفي شارع قصر العيني، وفي ميدان عبدالمنعم رياض، وعلى كوبري قصر النيل وفي الجيزة والدقي بالقوة مستخدمة القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، وامتدت الاحتجاجات في القاهرة إلى أحياء كثيرة كالمطرية وشبرا والمهندسين، وتجمعوا في ميدان التحرير. لم تكن المحافظات المصرية بعيدة عن هذه الاحتجاجات، حيث خرجت شرائح المجتمع المختلفة، وكانت مطالبهم الأساسية، هي الحرية ومواجهة الفساد والبطالة والعدالة الاجتماعية، وإقالة وزير الداخلية. وتصاعدت الاحتجاجات في السويس وشارك فيها نشطاء ومعارضون ومئات من الشباب العاطل، وحاولت قوات الأمن تفريق المتظاهرين، وحدثت اشتباكات دامية بين المتظاهرين وقوات الأمن انتهت بسقوط 3 شهداء نتيجة لاستخدام الشرطة الرصاص الحي. كانت هناك دعوات من خلال شبكة الإنترنت إلى خروج جميع القوى الشعبية للمظاهرات، عقب صلاة الجمعة في 28 يناير وأطلقوا عليها "جمعة الغضب"، رغم ذلك خرج مئات الآلاف من الشعب المصري، لكن ارتفع سقف المطالب بعد سقوط قتلى في الاشتباكات مع الشرطة، وتجاهل الحكومة المصرية لمطالب الشعب الذي ردد هتاف: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وسقط حوالي 300 شهيد بعد استخدام قوات الأمن للقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي، وأحرق المتظاهرون عددا من سيارات الشرطة كرد فعل على استخدام الشرطة للعنف. نزل الجيش إلى الشوارع المصرية مساء 28 يناير لمساعدة قوات الشرطة في فض التظاهرات، لكن قوات الشرطة انسحبت، وفتحت السجون في جميع أنحاء مصر في وقت واحد، وانتشر "البلطجية" وازدادت عمليات النهب والسلب والتخريب، وتم فرض حظر التجوال. ظل المحتجون بميدان التحرير رغم فرض حظر التجوال، وانضم إليهم مختلف فئات الشعب وكوادر الأحزاب وجماعة "الإخوان المسلمين" وأهالي الشهداء والجرحى، الذين توافدوا على ميدان التحرير تباعا للاعتصام طلبا للقصاص ، بالإضافة إلى المتضررين من الشرطة والحزب الوطني، وتزوير الانتخابات، فضلا عن انضمام عدد من أفراد القوات المسلحة ومئات الآلاف من أفراد الشعب غير المنتمين لأي أحزاب سياسية، وطالبوا برحيل الرئيس حسني مبارك ونظامه ومحاكمة المسئولين المتسببين في الفساد. وفي اليوم التاسع لاندلاع المظاهرات قامت جموع من البلطجية المسلحين بمهاجمة المتظاهرين في ميدان التحرير، ودخلوا على ظهور الجمال والخيول، بالكرابيج لضرب المتظاهرين وهو ماعرف ب"موقعة الجمل"، واستشهد عدد من المتظاهرين، وزاد عدد المستشفيات الميدانية التي تطوع فيها الأطباء - ممن كانوا يشاركون في المظاهرات- في مختلف التخصصات لإسعاف الجرحى من المتظاهرين. قرر المتظاهرون حماية وتأمين أنفسهم وذلك بعد انتشار البلطجية وانسحاب الشرطة من الشوارع، وبدأت جموع من الشباب ممن لديهم خبرة في الحراسات والتفتيش في تأمين ميدان التحرير المعتصمين فيه، لمنع تكرار ما حدث يوم الأربعاء الدامي، كما ظهرت اللجان الشعبية في الشوارع لحماية المواطنين في المنازل. وقد شاركت ربات المنازل والأطفال في مظاهرات التحرير، وبدأ توافد الآلاف من الأقاليم المختلفة إلى ميدان التحرير بالقاهرة، بينهم عدد كبير من محافظة المنوفية، مسقط رأس الرئيس مبارك، ورفض المتظاهرون العودة إلى منازلهم وقراهم إلا بعد رحيل مبارك، رافعين شعار "مش هانمشي..هو يمشي". تقول الدكتورة عزة كُريم، أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الجنائية، إنه منذ نجاح الثورة في تونس، نفى مسئولون مصريون أن ما حدث في تونس يمكن أن يحدث في مصر رغم أن كل المؤشرات كانت تؤكد إمكانية تكرارها. أضافت عزة كُريم أن تونس مستواها المعيشي أكبر من المصريين رغم ما قيل عن أن الثورة في مصر يمكن أن تكون ثورة جياع بمعنى أن يشارك فيها الفقراء وقاطنو العشوائيات فقط، لكن ما حدث في مصر خالف تفكير الكثير ممن استنتجوا ذلك الوضع، حيث إن تونس جمعت بين جميع فئات المجتمع التونسي من فلاحين ورجال ونساء ومثقفين وغيرهم، لكن الثورة المصرية لم تأت من أجل حل المشكلة الاقتصادية فقط، لذلك تشابهت مع ثورة تونس التي طالبت بالديمقراطية والحرية وحل المشكلة الاقتصادية. تتابع عزة كُريم: شاركت فئات المجتمع المختلفة في الثورة المصرية مثلما حدث مع تونس، حيث وجدنا الشباب الثري والفنانين والمثقفين والناشطين وغيرهم، فكل فئة تعاني ، فمثلا المثقفين والناشطين يعانون في مصر من الفساد وكبت الحرية، والشباب العاطل والفقراء يعانون من الحالة الاقتصادية الصعبة، وفي النهاية خرج المجتمع يعاني من الظلم والاستبداد وهو ما يشعر به كل مصري يتعرض بشكل يومي للفساد، ولذلك خرجت الثورة في مصر بمثابة انفجار "بركان غضب"، وبالتالي فإن الثورة بدأت شبابية وسرعان ما تحولت إلى شعبية تضم كل فئات الشعب. وتري الدكتورة عزة أن هناك فئات لديها رؤية فردية تحاول اغتصاب الثورة المصرية رغم أن الثورة قامت على رؤية جماعية، وبالتالي ظهرت المطالب الفئوية بالمؤسسات المختلفة وهو ما يؤدي إلى تعطل الإنجازات السريعة للثورة وضياع ثمارها وستعطي فرصة للعملاء والفاسدين بالتدخل في شئون الدولة، الأمر نفسه حدث بتونس رغم حصولهم على جميع مطالبهم، فالمظاهرات لها سقف إذا تعدته تتحول إلى تدمير. وأكدت الدكتورة سهير عبد المنعم، أستاذة القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، أنه رغم أن المستوى الثقافي والاجتماعي للشعب التونسي أعلي من مصر إلا أن الفئات التي قامت بالثورة في تونس كانت من الطبقة الوسطى بالإضافة إلى قلة من العشوائيات لكنها لا ترقى إلى مستوى العشوائيات في مصر، كذلك من بدأ الثورة في مصر هم شباب الطبقة الوسطى، وبعدها انطوى تحت لوائها جميع فئات الشعب. وتستدل سهير على ذلك بخروج المتظاهرين في يوم 25 يناير من أماكن يعرف عنها أنها فقيرة وعشوائية مثل بولاق وشبرا فقد استقطبت الفئات الأقل في الشعب. وأضافت أن السيناريو نفسه حدث في تونس، حيث أطلق الشاب المتعلم الفقير شرارة الثورة، بعدها خرجت جميع فئات الشعب من محامين ومثقفين وناشطين وغيرهم. وتقول الدكتورة سهير إن أكبر مظاهرة خرجت في تونس كانت تضم حوالي 15 ألف متظاهر، لكن في مصر خرجت المظاهرات بالملايين، وظهر فيها النساء والأطفال والعائلات، وذلك يرجع إلى ما يعانيه الشعب المصري من كبت وفقر وحرمان من الأحلام وإحساس بالضياع، وفي لحظة جاءت الثورة وكأنها الحلم الذي ينتظره كل المصريين، فكان الطبيب يجلس بجوار سائق ال"توك توك"، والأمي بجوار طالب الجامعة الأمريكية، وكل منهم له دور حيوي في الثورة.