ضيف يحل علي البلدان بلا استئذان، وينفجر في وجه النظام أيضًا بلا استئذان، يقوم بشرارة بسيطة ينفجر بعدها فيحرر الإنسان.. إنها ثورات الشعوب وليدة القمع والحرمان.. أطاحت بأنظمة وحكومات وبقي علي أرضها فقط من عاني من الحرمان. لم يصدق أحد - أيا كان موقعه الاجتماعي - حالة السعار التي أصابت شوارع الوطن العربي، واشتعلت بشباب وصمهم البعض بالتافه، و"شباب الإنترنت"، أو شباب "الفيس بوك"، والذين استطاعوا أن يكسروا حاجز الصمت، معلنين أنهم "فاض بهم الكيل" أمام مختلف أشكال الظلم والاستبداد وقمع الحريات والتعسف في اتخاذ الإجراءات، وغوغائية تنفيذ القوانين وتطبيقها علي أرض الواقع. لم يكن أحد يصدق أن يحرق شاب تونسي نفسه بسبب ضيق فرص الحياة الكريمة، وإهانة الأمن، أو ذاك الذي حرق نفسه أمام مجلس الشعب بالقاهرة، لم يكن أحد يصدق أن مثل تلك الأحداث ستكون "الشرارة" التي تضرم النار في شوارع القاهرةوتونس؛ مطالبة برحيل النظام ومحاكمة المتسببين في انهيار المنظومة المجتمعية والوطنية.. رافعين شعار "البلد دي بلدنا كلنا.. موش بلدكم لوحدكم". ففي تونس، اكتظت الشوارع بآلاف المتظاهرين أمام قصر الرئيس زين العابدين بن علي، هاتفين بقوة وحسم "النشيد الوطني التونسي"، وفجأة صمت النشيد الوطني لتعلو أصوات طلقات النيران، والتي سقط علي أثرها ستون شهيدا، وعدد لا بأس به من الجرحي، وراح معتقلون في مواجهات مع جنود أمن لا يحسد أحدهم علي قسوته،والمشهد ذاته، (علي طريقة الكابي.. باست)، تكرر علي أرض ميدان التحرير بدأت بتجمع آلاف المتظاهرين؛ منددة بالنظام الحالي ومطالبة برحيله كلية "من أصغره إلي رأسه"، لتتوالي الأيام وتشتعل نيران الغضب بسرعة - لم تكن متوقعة علي الإطلاق - وتظهر مسيرات مليونية كلها اتفقت علي إسقاط النظام، بل إنها اتفقت علي إسقاط رأس "النظام" الرئيس مبارك.. ووسط الاحتجاجات والمظاهرات انطلقت طلقات النيران (الحية) مدوية، ليتكرر المشهد برمته علي أرض الكنانة كما حدث علي أرض الدولة الخضراء. ولم تكن المظاهرات التي استمرت لأسابيع؛ لسبب هين؛ فنظام زين العابدين بن علي (في تونس) دام لأكثر من عقدين، ونظام نظيره المصري (مبارك) دام لأكثر من ثلاثة عقود، وكلاهما عُرف بالتعامل القمعي مع المواطنين وحرياتهم عبر ذراع الأمن، وتمكين فئة منتفعة من مقدرات الشعب وقوته، وحرياته؛ فكان الفقر والبطالة من نصيب معظم شرائحه، إضافة إلي حرص النظامين علي كسب ولاء مؤسسات الصحافة، والسياسة، والفتوي، والأحزاب ليقف الشعب وحيدا في مطالبه! ولكن يبدو أن المتظاهرين - المصريين والتونسيين - لم يقتنعوا بمحاولات رؤسائهم لامتصاص ثورتهم، كما لم يقنعوا بالوعود الرنانة للإصلاح؛ حتي أصبح مطلبهم الأوحد والأول هو "رحيل رأس النظام نفسه"؛ مما اضطر بن علي للإذعان وطار لا يعرف وجهة؛ تاركا مقعد الرئيس شاغرا، حتي حصل علي حق اللجوء من السعودية، ولكن الرئيس مبارك رغم أنه سافر إلي شرم الشيخ إلا أنه تارك مقعده الرئاسي للقوات المسلحة ليضمن بذلك استقرار البلاد. ومن الملاحظ والمدهش خلال تظاهرات تونس، ما ردده المتظاهرون التونسيون في مشهد الحرية من كلمات للشاعر أبو القاسم الشابي: (إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر).. وفي المشهد المصري خرجت العديد من القصائد المؤيدة لمطالب الشباب، والهاتفة ضد النظام؛ مما يعني وجود حراك إبداعي لدي الشعبين مصدره نار التظاهرات، التي أحرقت قلوبهم لسنوات وسنوات.. "صوت البلد" التقت عددًا من المثقفين والشعراء؛ لاستجلاء الصور الواضحة حول الأحداث المصرية والتونسية، وكيف رآها المثقف بعينه الإبداعية. ويشير د. عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام)، إلي أن الشارع العربي ككل بات يتبادل التهنئة، وكأن الثورة لم تكن في مصر، أو تونس وحديهما، بل امتدت لتشمل بقية البلدان العربية.. وأوضح: وهذا بالطبع يعكس أشواق التغيير التي تستبد بأفئدة المواطن العربي عمومًا، ومواطني البلاد التي شهدت التظاهرات علي وجه الخصوص، فكلهم في الاستبداد والجمود واحد. وأضاف (أبو همام): كل هذه الثورات كان متوقعًا لها موعد انفجار، نظرًا إلي مقدماتها، والتي تمثلت في: غياب العدالة الاجتماعية، ووجود نظام يعادي الأحلام، ويكره الطموح المشروع؛ كل هذا كان لابد أن يؤدي إلي ما شاهدناه في مصر وتونس.. وقال متعجبًا: "وكأن هذا الشاب الذي أحرق نفسه أمام مجلس الشعب، وهذا الشاب البوعزيزي؛ قد رفعا الغطاء عن إناء ظل يغلي فوق النار لأكثر من ربع قرن من الزمان فانفجر في وجه النظام". وشاركه الرأي د. محمد عبد اللطيف حماسة عضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة؛ قائلًا: إن كلا الشعبين انتفض طلبا للحرية، والخبز، وفرص العمل، إضافة إلي إنهاء الفساد الضارب في جسد البلاد، واستطاع شباب ميدان التحرير كما أجبر أبطال انتفاضة تونس الرئيس علي الرضوخ لمطالبهم - والذي كان مجرد التفكير فيه ضربًا من الخيال - أن يجبروا الرئيس مبارك علي ترك منصبه الرئاسي.. ولكنه أبدي قلقه من تداعيات ما حدث.. متمنيا السلامة لشعب مصر أجمع. عاقدًا مقارنة بين حال البلدين؛ بقوله: هناك تمت الإطاحة بوزير الداخلية وعدد من رءوس الحكم وسحب توصيفاتهم بحق الثائرين، وهنا في مصر تمت تلك التعديلات نزولًا علي رغبة المحتجين ورحيل الرئيس مبارك.. واختتم كلامه قاءلًا: آمل ألا نشهد فوضي وتاعيات سلبية علي أرض مصر. وقال الشاعر حلمي سالم عضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة: الأحداث المصرية والتونسية، تداعت علي نحو أسرع مما توقع له أكثر المتفائلين؛ حتي جاء الانهيار مفاجئًا، ومدويا؛ فوجدنا أنفسنا جميعًا أمام ما يمكن أن نطلق عليه "انهيار سور برلين العربي".. وفيما يتعلق بمخاوف البعض من سرقة مكاسب الثورة لصالح منتفعين، أشار إلي أنها بالفعل حقيقة؛ خاصة في ظل ما يشهده الشارع المصري الآن من عمليات امتطاء أو سطو صامت علي ثورة الشعب، وليس أدل علي هذا مما حدث في المشهد التونسي من تنصيب الوزير الأول السيد محمد الغنوشي نفسه، رئيسا مؤقتا للبلاد؛ مما فاقم هناك - وهنا كذلك - مخاوف من اختطاف الثورة أو سرقة نجاحاتها. د. محمد عليوة أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة، يقول: إن تونس كانت دائما من أهم مراكز الحضارة في العالم الإسلامي؛ وشعبها متحضر يعرف قيمة الحرية والتسامح أيضا، ويملك مثقفين مستواهم الفكري عالٍ.. وهذا ما ينطبق علي الشارع، والوضع العام في مصر؛ ناهيك عن أن تونس أول من أهدت للعالم العربي فكرة الدستور، وكانت بحكم موقعها الجغرافي من أكثر الدول العربية معرفة بقيم الثورة، والمساواة، والحرية، فقد استطاعت بثورة شعبها أيضا أن تطرد المحتل الفرنسي 1956.