ما حدث أمام مقر الاتحاد العام للعمال من مظاهرات، تطورت للاشتباك ومحاولة اقتحام المبني الكائن بشارع الجلاء مساء 14 فبراير، يعكس حالة الانفصام القائمة بين قيادات عمالية عاشت في عالمها الخاص، مفضلة الارتباط بالسلطة السياسية، على تمثيل العمال. وهو ما دفع العمال إلى الدفاع عن مطالبهم كتحسين الأجور وأجواء وشروط العمل والحفاظ على العمل ودرء مخاطر البطالة بأنفسهم دون سند من هذا الاتحاد. ومثل هذه الحالة توفر مقومات الثورة على الأوضاع السائدة، فالعمال -الذين شاركوا في ثورة التغيير الجارية في مصر- أحسوا أن هذا التغيير يجب أن يمتد إلى نقابتهم العامة، التي باتت رمزاً من رموز فساد سلطة ولت، وفقدت قدرة التعبير عن ضمير وأوضاع العمال، بسبب المصالح والارتباط بالعهد السابق. والعلاقة بين الاتحاد العام والنقابة المستقلة للضرائب العقارية بزعامة كمال أبو عيطة كاشفةعمق هذه الأزمة، وتعبيراً في ذات الوقت عن مسارين: الأول، مساع لكي تكون النقابات تعبيراً عن ضمير العمال ومدافعا عنهم أمام توحش رأس المال بشقيه الوطني والخارجي، الذي تجاوز جميع الحدود خلال السنوات الماضية، مستغلاً روابطه المصلحية مع رموز النظام السياسي السابق. والثاني، استخدام ورقة العمال في الحصول على مزايا ومنافع مادية بالتعاون مع السلطة، وإجهاض أي صوت احتجاجي للعمال سواء تجاه رفع مطالب فئوية تخصهم في المجال الاقتصادي والاجتماعي، أو مطالب عامة بالمشاركة مع شرائح الشعب الأخرى المطالبة بالتغيير السياسي، ولم يكن موقف الاتحاد بمشاركة العمال الأخيرة في ثورة التغيير إلا تعبيراً عن تلك الحالة غير المسبوقة من الانصياع للسلطة في مواجهة القواعد العمالية التي يمثلها الاتحاد. ففي الوقت الذي شارك فيه الآلاف من العمال في ثورة التغيير، لإحساسهم بكم المخاطر التي تعرضوا لها بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية في مصر، كجزء من حالة الغليان التي شهدت أكثر من نقابة عمالية منذ عام 2006 للمطالبة بالإصلاح الشامل، فإن الاتحاد العام لم يقف فقط-كعادته- موقف المتفرج لما يحدث، رغم سقوط قتلي وسجن العديد من العمال وتحديداً في السويس فحسب، وإنما طالب رئيسه حسين مجاور أيضاً رؤساء النقابات العمالية بالتأهب والتدخل الفوري لإجهاض أي مظاهرة عمالية. وقام مجاور بإرسال إشارة عاجلة لرؤساء النقابات العمالية بمتابعة أوضاع العمال ساعة بساعة وإخطار الاتحاد بالتطورات داخل جميع المنشآت العمالية، والاشتباك المحدود الذي وقع أمام مقر الاتحاد حدث بسبب رغبة مسئولي نقابة الضرائب العقارية المستقلة التحفظ على مستندات الاتحاد، وإيقاف خصم قيمة الاشتراك من موظفي الضرائب لصالح اتحاد العمال، لكونهم الأحق بهذا المورد المالي. فنحن هنا أمام ظاهرتين غاية في الخطورة سوف نحددان مستقبل العلاقة بين الطرفين: الأولى، غياب الحوار العاقل بين العمال وقياداتهم النقابية بسبب افتقاد الثقة المتبادلة، الذي انتقل للأسف من داخل مصر لخارجها، فعقب قبول نقابة الضرائب العقارية المستقلة بالاتحاد الدولي للخدمات العامة عام 2009، قاد الاتحاد العام حركة انسحاب لثلاث نقابات عمالية مصرية من الاتحاد الدولي كرد فعل انتقامي لقبوله نقابة الضرائب العقارية المستقلة، بل وصف مجاور هذا القبول بمحاولات خارجية لاختراق التنظيم النقابي المصري. والثانية، محاولات العديد من قيادة الاتحاد إتلاف الوثائق والمستندات الكاشفة لعمليات الفساد الإداري والمالي الخطيرة التي حدثت طوال السنوات الماضية، لإدراكهم أن الفترة المقبلة سوف تكون فترة مساءلة ومحاسبة عسيرة. إذ بات يدرك هؤلاء، أن الحماية التي كفلها النظام السياسي عبر احتواء الاتحاد العام، وتوفير الحماية القانونية المانعة لظهور اتحادات مستقلة لم يعد لها وجود الآن، وهو ما يشعر مسئوليه بقدر عال من الخوف والتوتر، من رياح التغيير التي تهب داخل أكثر من نقابة، حتماً ستصل إليهم قريباً. وعوضاً عن تلافي أخطاء مرحلة سابقة كانت فيها الدولة هي الحاضنة للاتحاد العام، حيث احتفظت الحكومة لنفسها بتلك النقابة ذات الثقل الأهم داخل الساحة النقابية، لمنع ظهور توجهات مستقلة أو كبح وصول المعارضة والإخوان لهذا التنظيم، كما حدث بالنقابات المهنية الأخرى، استمر الاتحاد في إدارة الأمور كأن ما حدث داخل مصر لا يعنيه. ولذا كان اللجوء لتفجير العلاقة بين العمال والاتحاد هو الطريق الوحيد لإيصال التغيير لهذا الاتحاد من خلال الإضراب وتعطيل العمل والمظاهرات، وكلها أمور كانت محرمة أو مستهجنة في أوضاع سابقة، لكنها باتت متاحة الآن بشكل كبير. فالمطلوب الآن من الاتحادأن يكون مظلة يحتمي بها العمال، وأن يكون الضمير المعبر عنهم، لا أن يكون آلية لإجهاض العمل النقابي ومصادرته لصالح أي جهة كانت حكومية أو حزبا سياسيا. لدينا العديد من الأمثلة الكاشفة عن هذا الانفصام بين نخبة تم إخضاعها لسياسات تخدم الحكومة ورأس المال، وقواعد شعبية تشعر بالاغتراب التنظيمي تجاه نقاباتهم، لعل أبرزها قرار مجاور في يولية 2009 تشكيل لجنة دائمة بالاتحاد لبحث تداعيات الأزمة المالية العالمية على عمال مصر ومعالجة آثارها على بيئة العمل والعمال، وهي اللجنة التي اقتصر عملها على الاجتماعات والمناقشات دون مردود فعلى تجاه تحسين أوضاع العمال، الذين اضطروا للدفاع عن مصالحهم وحقوقها بالتظاهر والاضطرابات العمالية. وإذا كان لدعوة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بيانها الأخير للتهدئة والعودة للحياة الطبيعية أن تثمر عن شيء، فلابد من إصلاح هذه العلاقات المشوهة بين الاتحاد العام والعمال، إذ لا يعقل أن يعيش هؤلاء المسئولون في واد، والآخرون من العمال والقواعد الشعبية المهدرة حقوقهم وكرامتهم في واد آخر سحيق، من دون هذا الإصلاح فلن تكون هناك التهدئة المتوقعة داخل القطاع العمالي.