من الواضح أن هناك اهتمامًا من الحكومة الانتقالية في مصر بالسياسة الخارجية المصرية، باعتبارها أداة رئيسية لتعزيز "شرعية" المرحلة الانتقالية الجديدة التي تمر بها بعد الموجة الثورية الثانية 30 يونيو 2013، وهذا ما يدعمه تعيين الرئيس المصري شخصيتين ذواتا تاريخ طويل في الدبلوماسية الدولية، في منصبي وزير الخارجية ممثلا في نبيل فهمي، ونائب لرئيس الجمهورية ممثلا في الدكتور محمد البرادعي.إلى جانب ذلك، من الواضح ان ما سيميز السياسة المصرية خلال المرحلة المقبلة، هو الطابع البراجماتي، القائم على خدمة المصالح الوطنية لمصر، وهو الذي تراجع طوال فترة الرئيس المعزول محمد مرسي، لصالح مصالح ضيقة، تعارضت مع المصالح الوطنية في كثير من الأحيان. -"أسس" جديدة للسياسة المصرية: رغم عدم وضوح آلية صنع قرار السياسة الخارجية خلال هذه المرحلة،والمؤسسات المنخرطة فيها، إلا ان تولي نبيل فهمي منصب وزير الخارجية، وحرصه على الحديث عن "المصلحة الوطنية" و"الأمن القومي" لمصر كمرتكزين رئيسيين لسياسة مصر وعلاقاتها الخارجية، يعد مؤشرا على ان السياسة المصرية تشهد تحولا عما استقرت عليه طوال فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، فعلى سبيل المثال، لم تشر وثيقة " السياسة الخارجية المصرية.. رؤية جديدة" والتي صدرت عن ادارة العلاقات الخارجية في الرئاسة المصرية، في 14 أبريل 2013 ، والتي تعد اول وثيقة حول توجهات السياسة المصرية، من قريب او بعيد لفكرة المصلحة الوطنية، وفي المقابل تحدثت الوثيقة عن أن "تكون مصر دولة صاحبة نموذج حضاري متميز وهو ما يعني أن تبرز مصر المشروع الحضاري الإسلامي الوسطي الذى تطرحه فى علاقاتها الخارجية و تبني عليه". إلى جانب ذلك، إن تبني نبيل فهمي سياسة "تحريك" قطاعات الوزارة المختلفة لعلاج "الملفات الأزمة" في السياسة المصرية، ممثلة في ملف مياه النيل، وملف صورة مصر في الخارج بعد 30 يونيو، يؤشر إلى عودة الدور النشط للخارجية المصرية، وهذا على خلاف ما كان سائدا في عهد مرسي، حيث كان من الواضح حينها أن من يدير الملفات الرئيسية في السياسة المصرية هو عصام الحداد، الذي شغل منصب مساعد الرئيس للعلاقات الخارجية، والمهندس خالد القزاز مستشار الرئيس للشئون الخارجية، وذلك الى جانب دور ما لعبه السفير محمد رفاعة الطهطاوي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، في بعض القضايا، على نحو جعل وزارة الخارجية تلعب دورا "بروتوكولي" في معظم الملفات. إلى جانب ذلك، لم تكن هناك رؤية واضحة للسياسة الخارجية المصرية، من حيث طبيعة المصالح التي تسعى لتحقيقها، حيث كان من الواضح أن السياسة المصرية تجاه دول الخليج وسوريا وايران وتركيا يتم توظيفها لخدمة مصالح جماعة الأخوان وارتباطاتها الإقليمية والدولية أكثر من خدمتها لمصالح الدولة المصرية، على نحو أدخل مصر في نمط تحالفات "هش" مع تركيا وقطر، على حساب علاقاتها مع حلفاء استراتيجيين لها مثل دول الخليج. -توجهات ما بعد مرسي: إن الزخم الثوري الذي سبق تعيين نبيل فهمي، يجعل من الصعب الحديث عن عودة نمط العلاقات الذي ساد في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأوروبية، التي أصبح من الواضح ان هناك إطار جديد للعلاقات معها ينطلق من استقلال القرار المصري في إدارة العلاقات معها، خاصة في ظل تبني نخبة توصف في بعض الدوائر بطابعها "القومي الوطني" إدارة شئون الدولة خلال هذه المرحلة. وقد أعلن الوزير نبيل فهمي في رؤيته للسياسة المصرية خلال المرحلة المقبلة، أن الأولوية للسياسة المصرية خلال هذه المرحلة هو التواصل مع الفاعلين الدوليين لتوضيح ما جرى في مصر وكونه يعبر عن إرادة الشعب المصري، وأهمية هذا التوجه تعكس خبرة استراتيجية للوزير الجديد، وللقائمين على ملف السياسة الخارجية في المرحلة الحالية، فهناك ادراك ان النقاش حول ما اذا كان ما حدث في مصر هو انقلاب او ثورة جديدة لم ينته عند عدم قطع المعونة الأمريكية لمصر، أو عند تجنب الاتحاد الاوروبي تسمية ما جرى أنه انقلاب، وهو ما انعكس في موقف الاتحاد الأفريقي من مصر على سبيل المثال، حيث أن عدم اهتمام الدبلوماسية المصرية بتوضيح الصورة في مختلف المنتديات الدولية يعطي مساحة لأصحاب الرؤى الضيقة المحملة بمواقف مسبقة،والتي ليست على دراية بتفاصيل الوضع في مصر، للانتقاص من شرعية المرحلة الانتقالية، وهو ما ستكون له تبعات سلبية على الدولة المصرية. إلى جانب ذلك، حرص نبيل فهمي على توضيح دوائر اهتمام السياسة المصرية في ثلاثة دوائر، هي دائرة دول الجوار والهوية، ودائرة الدول الفاعلة، ودائرة باقي دول العالم، ومثل هذا التصنيف براجماتي يستند إلى اعتبارات المصلحة الوطنية والأمن القومي ، ويخرج مصر من الدوائر القديمة التي ارساها عبدالناصر، والتي في بعض الأحيان لم تخدم المصالح المصرية، ولم تعبر عن واقع السياسة المصرية، ويهدف هذا التصنيف كذلك للاستفادة من الفرص التي طرحها التغيير الثوري في مصر منذ 25 يناير 2011. بالإضافة إلى ذلك، حرص فهمي على تأكيد أهمية "دبلوماسية التنمية"، من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية والسياحة وطرح مشروعات مصرية كبري، والحصول علي المساعدات المالية والفنية من الشركاء الإقليميين والدوليين، والعمل علي نقل التكنولوجيا وتوطينها، من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مصر، وهذا يعكس بعدا براجماتيا آخر للسياسة المصرية خلال المرحلة المقبلة. -القضايا الإقليمية: حرص الوزير نبيل فهمي، على بيان موقف الدولة المصرية من عدد من القضايا الإقليمية خاصة تلك التي تسبب فيها موقف النظام السابق منها في أزمة للدولة المصرية، على نحو يعكس انطلاقها من المصلحة الوطنية، ففيما يتعلق بالموقف من سوريا، يعكس حديث فهمي عن تأييد الحل السلمي، وعن تأييد تطلعات الشعب السوري، رجوعا لما استقرت عليه السياسة المصرية طوال الفترة السابقة على ثورة 2011، وطوال فترة حكم المجلس العسكري بعد تنحي مبارك، وقد حرص فهمي على التأكيد أن مصر "لانية لها للجهاد في سوريا". وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التزم فهمي بالسياسة المصرية التي استقرت طوال الفترة السابقة على وصول الأخوان للسطلة، والقائمة على التواصل مع كل الاطراف الفلسطينية بما في ذلك فتح وحماس، وفي الوقت ذاته تأكيد شرعية السلطة الفلسطينية، وهو موقف مختلف عن الموقف الذي تبناه الرئيس المعزول مرسي، والذي عمل على تهميش السلطة الفلسطينية. وفيما يتعلق بسد النهضة، يدرك فهمي أن المشكلة لها بعدين فني وسياسي، مع ضرورة وضع تطلعات الشعب الأثيوبي في الاعتبار وعلى نحو لا يخل بالمصالح المصرية، ولا يخل بالأمن المائي المصري، وهذا الإدراك المعقد للمشكلة قد يكون بداية الحل، خاصة وأن جزءًا من مشكلة مرسي مع أثيوبيا كان مرتبط بعد فهم أبعاد المشكلة، خاصة وأنه استبعد عدد من الدبلوماسيين الذين لهم خبرة طويلة في إدارة العلاقات مع دول حوض النيل، وهو توجه لا يتبناه فهمي. وجدير بالملاحظة أن حديث فهمي عن العلاقة مع إيران، جاء عاما، ومرتبط بالحديث عن انفتاح مصر في علاقاته على الجميع وبما يخدم المصالح الوطنية، فضلا عن تأكيده على عدم اتجاه مصر لتقوية العلاقات مع طرف على حساب آخر، وهو توجه ميز بدرجة ما سياسات الرئيس المعزول مرسي اتجاه ايران ودول الخليج وتركيا. رغم أنه من المبكر الحكم على مدى فاعلية السياسة المصرية خلال المرحلة المقبلة،خاصة مع حديث فهمي عن تعدد الأدوات التي سيتم استخدامها لتحقيق هذه المصالح، ما بين أدوات القوة الصلبة وأدوات القوة الناعمة، إلا أنه من الواضح أن هناك أسس جديدة لهذه السياسة مرتبطة بالمصالح الوطنية للدولة، فضلا عن وجود مسعى لتطوير استراتيجية مستقبلية للسياسة المصرية في 2030 على نحو يجعلها أكثر وضوحًا.