دعك منِ أن مرتكبي جريمة "دار السلام" النكراء تجردوا من إنسانيتهم وفطرتهم القويمة، ونصبوا من أنفسهم قضاة وجلادين، إلا أنهم اقترفوا إثمًا وذنبًا أفدح وأكبر، هو الاعتداء السافر على سلطتي الدين والقانون، ولم يأبهوا بهما وبجلالهما وقدسيتهما، وكانوا سببًا في إزهاق روح سيدة أرهبوها داخل منزلها، وعذبوا شابًا جاء لتغيير أنبوبة البوتاجاز! ولن أستفيض في وقائع وتفاصيل الواقعة البشعة، التي تحقق فيها الآن النيابة العامة، لاستجلاء حقيقة ما جرى وملابساته المليئة بالتناقضات، وإعلان ما توصلت إليه من نتائج، وما إذا كانت الضحية انتحرت أم قتلت، وتقديم الجناة للعدالة الناجزة، لكنني سأتوقف عند ظاهرة مستشرية في مجتمعنا وتخص "المعايير الأخلاقية" التي تقوم جماعات وأفراد بتفصيلها على مقاساتهم الخاصة، ووضع الخطوط والحدود الفاصلة لها ومعها لائحة طويلة عريضة من العقوبات الغليظة والعنيفة، لفرضها على مَن يعتبرونه مخالفًا ومعارضًا لها. هذا الصنف من الناس لا ينشغل بما إذا كانت معاييره الأخلاقية المزعومة صحيحة وجائزة ومنطقية، أم أنها تتنافى جملة وتفصيلا مع القوانين الحاكمة والضامنة لخصوصية وحرية المواطن، طالما أنها لا تعتدي بأي صورة من الصور على حريات وخصوصيات الآخرين، ولا تهدد السلم الاجتماعي، ويعطون أنفسهم صكًا مفتوحًا يبيح لهم قول شيء في العلن، والإتيان بعكسه خفية دون أن يطرف لهم جفن، ويتمادون في غيهم وتناقضاتهم المفضوحة التي تؤدي لكوارث وفواجع على غرار جريمة "دار السلام". تلك "المعايير الأخلاقية" المفصلة على المقاس تخاصم مبادئ وقيمًا ثابتة ومعلومة يقينا في ديننا الحنيف ودنيانا، منها عدم التسرع في اتهام الآخرين بدون سند ودليل دامغ يعضده، والتماس الأعذار، وتقديم حسن النية على سوء النية، وقبول الاختلاف، وأن هناك جهات ومؤسسات مسئولة مسئولية مباشرة وأصيلة عن محاسبة المخطئين، وأنه لا يجوز لكائن مَن كان إعطاء نفسه الحق في إشهار سيفه في وجه جيرانه وأقاربه ومحيطه الاجتماعي، مهما كانت الذرائع والحجج، لأن ذلك ليس سوى مرادف واقعي للفوضى الشاملة. وما يثير الامتعاض والأسى، أن أكثرية الداعين والباكين على العفة ومكارم الأخلاق يبدون في الظاهر أتقياء ورعين، وفي الوقت نفسه، لا يُحجمون عن القيام بأشياء وأفعال مقطوعة الصلة بما يدعون إليه ويبشرون به، وتكاد صفحاتهم على "الفيس بوك" وبقية مواقع التواصل الاجتماعي تنفجر من كثرة ما بها من الأدعية وآيات الذكر الحكيم، والحكم والمواعظ الحسنة، وصورهم وهم يؤدون الحج والعمرة، ويرفعون أكفهم بالدعاء ودموعهم منهمرة على خدودهم. ودققوا مليا في خلفيات المتهمين بقضايا التحرش الأخيرة، ومنها "طفلة المعادي"، وجريمة "دار السلام"، لتتأكدوا من أن تدين الكثيرين مقصور على القشرة الخارجية من مظهر وملبس، وإطلاق اللحية، وطريقة الكلام، والرد على الهاتف المحمول والثابت بعبارة "السلام عليكم"، لكن تدينهم لم يخترق المسام ويستقر في أعماقهم وجوارحهم وأفئدتهم المريضة، وهذا التدين المصطنع يشبه حجرًا صلدًا قابعًا بماء، وحينما تحطمه تجده جافًا من الداخل لم تتسرب إليه المياه، ولا تعثر إلا على خواء تام. ما فعله المتهمون بفاجعة "دار السلام" أعتبره شكلا من أشكال الإرهاب الذي تكافحه الدولة المصرية بكل ما لديها من قوة وعزيمة، ولا يقل جرمهم وضلالهم عن جرم مَن يُحرضون على رفع السلاح في وجه الدولة وقواتها المسلحة وشرطتها المدنية، ويُفجرون قنابل الغدر والخسة وسط الآمنين من المصريين، حتى يجبروهم على الانصياع والرضوخ لمعاييرهم الأخلاقية والدينية المعوجة والمَفصلة على مقاسهم وتفكيرهم الخاص، فشعارهم إما تكون في معيتي، أو سأقتلك، فهم أشر خلق الله وأقبحهم. حادث "دار السلام" قرع جرس الإنذار لفئة حراس معبد الفضيلة والأخلاق الحميدة، حتى يراجعوا أنفسهم وتصوراتهم ويكونوا صادقين بمكاشفتها بما فيها من عيوب ومثالب خطيرة، وأن عليهم احترام وتوقير الدولة ومؤسساتها، وفهم الدين فهمًا صحيحًا وليس التعاطي معه وفقا لاعتقاداتهم وتفسيراتهم الموظفة لخدمة أفكارهم العبثية الخاطئة.