د. محمد كمال لسنوات طويلة ركزت السياسة الخارجية المصرية؛ سواء من حيث الأفكار أو مسارات الحركة على التوجهات المرتبطة بالجغرافيا السياسية أو ما يعرف بالجيو بوليتيكس، أى تلك التى تربط ما بين الجغرافيا والأمن. ويتذكر الكثير منا كتاب فلسفة الثورة للرئيس جمال عبدالناصر الذى وضع السياسية الخارجية فى قالب مجموعة من الدوائر مثل الدائرة العربية والدائرة الإفريقية والدائرة الإسلامية. والواقع أن هذا التوجه الجيوإستراتيجى للسياسة الخارجية لم يكن مقصورا فقط على مصر، بل كان التوجه الشائع الذى تبنته معظم دول العالم. ولكن العالم بدأ يشهد تحولا فى هذا التفكير فى ظل التحديات الاقتصادية التى تواجه العديد من دوله، وظهرت أفكار جديدة تحاول الربط بين الداخل والخارج، ووضع أجندة للسياسة الخارجية تستند على القضايا الاقتصادية والاجتماعية المحلية، بالإضافة إلى خلق قاعدة شعبية مساندة لتوجهات السياسية الخارجية، ولا تكون أفكارها وتوجهاتها معبرة عن النخبة فقط. فى هذا الإطار قام أحد مراكز الابحاث الأمريكية منذ نحو عامين بتشكيل مجموعة عمل متنوعة التوجهات السياسية بهدف الخروج بأفكار لسياسة خارجية أمريكية تتماشى مع المتغيرات الداخلية التى تشهدها الولاياتالمتحدة، وفى سبتمبر الماضى وقبل الانتخابات الأمريكية، وضعت المجموعة توصياتها فى تقرير من 90 صفحة، وحمل عنوان سياسة خارجية للطبقة المتوسطة. توصيات هذا التقرير انتقلت سريعا من عالم الأفكار إلى عالم السياسة، حيث ذكر الرئيس الأمريكى جو بايدن فى خطابه الأول عن السياسة الخارجية أن إدارته سوف تتبنى سياسة خارجية للطبقة الوسطي، وهو ما يعنى أن التقرير سيكون بمثابة خريطة طريق للسياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن. اختيار بايدن للفريق المساعد له عكس أيضًا هذا التوجه. حيث اختار جيك سوليفان، كمستشار الأمن القومي، هو مؤلف مشارك للتقرير، وعندما أعلن بايدن اختياره سوليفان ذكر أنه سوف يجلب تفكيرًا جديدًا إلى طاولة السياسة الخارجية. أما الاختيار الثانى فكان تسمية مستشارة الأمن القومى السابقة سوزان رايس، كمديرة لمجلس السياسة الداخلية بالبيت الأبيض، وبحيث تكون حلقة وصل بين فريق الأمن القومى وفريق الاقتصاد، أى أن الهدف هو تحقيق تكامل وتنسيق بين ملفى السياسة الخارجية والاقتصاد. تقريرسياسة خارجية لطبقة متوسطة استند على مئات المقابلات مع أصحاب الأعمال الصغيرة والمزارعين والمعلمين والمسئولين الحكوميين فى عدد من الولاياتالامريكية مثل أوهايو ونبراسكا وكولورادو، وسؤالهم عن أفكارهم بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وتوصل الى قناعة تأتى فى مقدمة التقرير وهى أنه بعد ثلاثة عقود من تفوق الولاياتالمتحدة على المسرح العالمي، تجد الطبقة الوسطى فى أمريكا نفسها فى حالة محفوفة بالمخاطر وأن مناهج السياسة الخارجية الرئيسية الحالية لاتحظى بدعم واسع فى الولاياتالمتحدة، سواء كانت الأممية الليبرالية، التى تبنتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة بعد الحرب الباردة، أو أمريكا أولاً للرئيس دونالد ترامب، أو التركيز على قضايا تغير المناخ أو تقليص الإنفاق الدفاعى الذى اقترحه الجناح التقدمى بالحزب الديمقراطي. ويشير التقرير الى أنه مع وجود الكثير من الأمريكيين الذين يكافحون الآن للحفاظ على مستوى معيشى للطبقة الوسطي، فإن أمن هذه الطبقة يتطلب فهما أعمق للقضايا الاقتصادية والاجتماعية المحلية وتعقيداتها. ومن ثم يدعو التقرير الى بذل الجهود لبناء إجماع سياسى جديد حول سياسة خارجية تعمل بشكل أفضل لمصلحة الطبقة المتوسطة باعتبارها الطبقة الاساسية والعمود الفقرى للمجتمع الأمريكي. ويدعو الى تشجيع المساهمات الفكرية من جيل جديد من المتخصصين فى السياسة الخارجية الذين يتحررون من القالب الذى تم تشكيله خلال الحرب الباردة وتداعياتها المباشرة. ويؤكد التقرير أنه لا يوجد دليل على أن الطبقة الوسطى فى أمريكا سوف تتجمع خلف الجهود الرامية إلى استعادة تفوق الولاياتالمتحدة فى عالم أحادى القطب، أو تصعيد حرب باردة جديدة مع الصين، أو شن صراع كونى بين الديمقراطيات والحكومات الاستبدادية، لأن كل ما سبق سيوسع الفجوة بين مجتمع السياسة الخارجية والغالبية العظمى من الأمريكيين، والذين يهتمون أكثر بالتهديدات المباشرة لأمنهم المادى والاقتصادي. ولكن يشير التقرير أيضا إلى أن الأمريكيين من الطبقة الوسطى لا يتوهمون أن مصيرهم يمكن عزله عن مصير العالم، ويؤمنون بأن على الولاياتالمتحدة الحفاظ على دفاع وطنى قوى يخدم مصالحهم الاقتصادية. ويطرح التقرير عددا من البنود لأجندة سياسة خارجية يكون لها صدى لدى الطبقة المتوسطة وتعزز ازدهارها الاقتصادي، و منها إعادة النظر فى توجهات العولمة والسياسات التجارية التى أفادت بشكل غير متناسب أصحاب الدخول الأعلى والشركات المتعددة الجنسيات فى البلاد وفاقمت التفاوت الاقتصادى المتزايد فى الداخل، وتبنى مفهوم أوسع للدفاع الوطنى يشمل تنمية القوى العاملة، والأمن السيبراني، والبحث والتطوير لتعزيز الاقتصاد الأمريكى والقدرة التنافسية التكنولوجية فى الصناعات الاستراتيجية، والتأهب للأوبئة. باختصار التقرير يضمن العديد من التوصيات المهمة الأخري، ولكن أهميته تعود فى المقام الاول الى تبنى منهج الربط بين الداخل والخارج، بين السياسية الخارجية ومصالح الطبقة الأكبرفى المجتمع، وتكوين ظهير شعبى للتحرك الخارجي، كذلك إتاحته الفرصة لأجيال جديدة من أصحاب الأفكار المبتكرة والخلفيات غير التقليدية للإسهام فى طرح تصورات جديدة للسياسة الخارجية.