لبنان المأزوم، المحاصر دائما بالكوارث، من احتجاجات طرابلس والخوف من تسلل داعش، إلى آلاف الإصابات اليومية وعشرات الوفيات بفيروس كورونا، فى بلد يبلغ عدد سكانه نحو 6٫9 مليون نسمة، من تعطيل تأليف الحكومة برئاسة سعد الحريرى لأكثر من 4 أشهر، إلى الانهيارات التامة فى كل مناحى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. وسط كل تلك الأزمات والكوارث، تنضم قضية جديدة تستهدف تغيير وجه لبنان السياسي، حيث تدور المعركة الآن حول وضع نظام سياسى جديد، والانقلاب على اتفاق الطائف، الذى مر عليه 32 عاما، لم تطبق بنود كثيرة فيه، كانت كفيلة بإصلاح النظام السياسى والطائفى فى لبنان. المعركة التى تدور رحاها الآن فى لبنان، لها أطراف ثلاثة، الطرف الأول جبران باسيل، وهو رئيس التيار الوطنى الحر ، إذ خرج منذ أيام فى مؤتمر كبير، دعا فيه إلى تنظيم مؤتمر لقيام نظام تأسيسى جديد، الهدف منه بالتأكيد هو ضرب اتفاق الطائف، غير المرضى عنه منذ إعلانه عام 1989 بمدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية، تحت رعاية أمريكية. أما الطرف الثانى فيمثله فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان الأسبق، الذى دعا إلى «مبادرة للعيش المشترك والدستور والإنقاذ الوطني»، تقوم على تطبيق اتفاق الطائف، والتمسك به بصفته مرجعية نهائية، والطرف الثالث يناوش من بعيد، خاصة المقربين من حزب الله، إذ يدعو تارة إلى المثالثة لا المناصفة، وتارة إلى دولة مدنية، كما طالب المفتى الشيعى أحمد قبلان بإسقاط صيغة الطائف وقيام دولة مدنية. معركة الحديث عن الطائف قديمة جديدة، لكن ما أن تلفظ الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، بعقد سياسى جديد، حتى كرّت مسبحة المبادرات والمؤتمرات، فارتفعت الأصوات وعلت النبرات من كل المكونات السياسية فى لبنان، وهنا نستمع لبعض الأصوات التى تمثل المكون السياسى فى لبنان، ومنهم على سبيل المثال، النائب آلان عون عضو تكتل لبنان القوى والقيادى فى التيار الوطنى الحر، إذ يذهب فى حديث ل « الأهرام» إلى أن الكلام الذى صدر خارجياً أو داخلياً عن العقد السياسي، جاء كردّة فعل أو صرخة تجاه الأزمات العصيّة السياسية، أكثر منه كمشروع واضح المعالم وجاهز للطرح والمناقشة. فالعقد التأسيسى بمفهومه الواسع هو أبعد من مجرّد تعديل لاتفاق الطائف. وهنا نسأل: هل توجد رؤية واضحة حول ما يريده كل فريق فى لبنان فى المرحلة القادمة؟ وهل من يرفع الطروحات والشعارات يملك فعلياً الإمكانات لتحقيق أهدافه؟ هذا كله يقودنا إلى أن خطوة طرح عقد تأسيسى جديد تتطلب دراسة ضرورية وخلق ظروف وتفاهمات وتصورات مشتركة داخل كل المكوّنات اللبنانية على حدة، ومن ثم بين بعضها البعض قبل طرحها على أى طاولة بحث. ويشيرعون إلى أنه برغم كل الأزمات والمشاكل التى نعيشها اليوم، والثغرات الكبيرة فى نظامنا السياسي، فلا أرى أن توقيت طرح عقد سياسى جديد هو توقيت مناسب فى ظل هذه الظروف التى نعيشها. فأى طرح بهذا الحجم إما أن يأتى نتيجة حروب أهلية أو يأتى نتيجة حوار وطنى مسئول ومتكافئ وبإرادة جامعة. وإذا كان لبنان قد تجاوز والحمد لله خطر الحروب الأهلية التى لا يتمنى أحد العودة إليها بأى شكل من الأشكال، إنما الذهاب إلى عقد تأسيسى إرادياً غير متوفر الشروط حالياً لأكثر من سبب. ويميل عون مستقبلا إلى أمرين اثنين: إلى تعديلات أو نصوص جديدة وإلى أشخاص مؤهلين فى السلطة يطبقون الدستور والقوانين القائمة، فيقول: يجدر الاعتراف بأن تجربة السنين الأخيرة حيث اختبر اللبنانيون دستور الطائف دون وصاية خارجية، بينت الثغرات التى يجب معالجتها. فكل ما يصب فى خانة حل الخلافات، ومنع التعطيل، وحصر المهل، ومنع الفراغ، هو شيء مفيد حتى لو تطلب تعديلات دستورية. المهم أن يعمل نظامنا بشكل تلقائى وألا تؤدى الخلافات السياسية إلى تعطيل للمؤسسات، ومع ذلك فبرغم مشاكل نظامنا السياسي، يمكن ممارسته بشكل أفضل وبإنتاجية أعلى فيما لو كان هناك أشخاص مختلفون فى سدة القرار. فغالباً ما كانت الأزمات ناتجة عن فقدان ثقة، وإشكاليات شخصية، ومزاجيات سلطوي، كان ممكن تجنبها بعمليات ومقاربات مختلفة عند المسئولين. كان من أحد بنود الطائف هو تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية، يراها عون طموحا كبيرا لهم، لكنه يرى أن هذا يأتى نتيجة مسار طويل يتحول فيه تفكير اللبنانى وأداؤه وخياراته الانتخابية من منطق طائفى بحت إلى منطق المواطنية والعلمنة، وحتى يتحقق ذلك لابد من توحيد قوانين الأحوال الشخصية بحيث يُلغى كلياً أى تمييز بين اللبنانيين فى قوانينهم وفى علاقتهم مع الدولة، ويُحصر تمايزهم بمعتقداتهم الدينية التى يمارسها كل فرد بكامل حريته. النائب د. على بَزْيّ عضو حركة أمل ونائب كتلة “التنمية والتحرير يوضح لنا الالتباس الذى حدث جراء طرح ماكرون مبادرة سياسية، إذ يقول: حين زار الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لبنان بعد حادث المرفأ وأطلق مبادرته، بعد سلسلة من اللقاءات مع كافة المستويات السياسية والقيادات اللبنانية ،وردت جملة تتعلق بعقد سياسى جديد، يبدو أن هذه الجملة أحدثت التباسا عند البعض فى لبنان، وقالوا إن هناك تعديلا أو تغييرا فى النظام السياسي، وربما استند إلى هذا البعض بسبب أن اتفاق الطائف لم تطبق به بنود مهمة جدا، ومنها البعد الإصلاحى، وكذلك بنود أخرى لها علاقة بتطوير النظام السياسي. من هذه البنود تشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية، وهى برأى كافة اللبنانيين أن تشكيلها يضع لبنان على الطريق الصحيح. كما أن كثيرا من اللبنانيين يميلون إلى الدولة المدنية، وهو ما طالب به الرئيس نبيه برى على طاولة الحوار فى 2016 وقبل ذلك فى الثمانينيات والتسعينيات بأن خلاص لبنان يكون من خلال دولة مدنية، وكل من كان موجودا وافق فورا. لكن، حين انتهى الاجتماع وطٌلب من كل واحد منهم أسماء مندوبيه للتواصل تحصنوا بالصمت والتسويف، خاصة طرفين معروفين ومحاضر الجلسات شاهدة على ذلك، والأمر ليس عند القوى السياسية فقط بل عند كثير من أطياف الشعب، فإن سألت أى لبنانى ماذا يريد أو أجريت استفتاء ما شكل الدولة التى يريد؟ سيقول لك دولة مدنية لكن عند الواقع يلوذ بطائفته ويحتمى بها. فالدولة المدنية هى الدولة الحامية للوطن والمواطن وليست دولة المزرعة، والاتجاه إلى الدولة المدنية لا يعنى اتفاقا جديدا أو دستورا جديدا، فقط أنت فى حاجة إلى تطبيق اتفاق الطائف بكل بنوده، خاصة إلغاء الطائفية ووضع قانون انتخابى خارج القيد الطائفى واعتماد لبنان دائرة واحدة على قاعدة النسبية مع الحفاظ على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين كما نصت عليه وثيقة الطائف، واستحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية فى لبنان. ومن جانبه ، أكثر ما يخشاه د. عمار حوري، النائب والمستشار السابق للرئيس سعد الحريرى ، محاولة البعض أن يذهب بعيدا فى اتجاه تعديل الطائف مما يكبد البلاد ثمنا باهظا، فاتفاق الطائف جاء بعد حرب أهلية أليمة ومدمرة فى لبنان شارك فيها كثير من الفرقاء السياسيين، وكان الاتفاق تسوية سياسية بين كل القوى فى لبنان، هذه التسوية حظيت برعاية عربية ودولية، وهى أفضل ما تم فى هذا الوقت، وكل من شارك فى التسوية أخذ شيئا من المكتسبات وقدم شيئا من التنازلات أو التضحية. لكن أهم ما جاء فى الاتفاق عنوانان أساسيان، الأول هو نهائية لبنان، والثانى عروبته، فقبل الطائف كان المسلمون فى لبنان يعتبرون أنفسهم جزءا من اللحمة العربية الشاملة، وبالتالى كان الكيان اللبنانى أقل أهمية من هذه اللحمة، فجاء اتفاق الطائف وأقام صلحا متينا ما بين المسلمين ونهائية لبنان ككيان، العنوان الآخر أن المسيحيين فى لبنان كانوا يميلون إلى ما نص عليه الميثاق الوطنى عام 1943 من أن لبنان ذو وجه عربي، وليس عربيا، لكن أتى اتفاق الطائف وكرس عروبة لبنان، أما الشق الإصلاحى فإن النظام الرئاسى فى لبنان قبل الطائف كان نظاما ملتبسا، بمعنى أن هناك صلاحيات لرئيس الجمهورية برغم أن نظام الحكم هو برلماني، لكن أتى الاتفاق لينقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعا، وليس مصلحة رئيس مجلس الوزراء، حيث يضم جميع الأطراف والطوائف. بعد اتفاق الطائف جاءت شخصية تاريخية لرئاسة الحكومة فى لبنان هى رفيق الحريري، وبحكم علاقاته العربية والدولية الهائلة أعطى بعدا إضافيا لموقع رئيس الحكومة، وهذا البعد لم يلغ اتفاق الطائف بل أضاف إليه. يقول حورى إن اتفاق الطائف هو اتفاق عادل ومنصف، وحين يتحدث البعض عن تعديله أو تبديله يعنى أننا نذهب إلى المجهول ومخاطرة ما بعدها مخاطرة، علينا أولا أن نطبق إصلاحات الطائف بعدها نتحدث هل حققت الإصلاحات المطلوبة أم لا ؟ لبنان عاش أوضاعا صعبة على مر تاريخه، لكن ما يعيشه خلال هذه الفترة هو ظروف دقيقة جدا ومعقدة جدا، فلا تحتمل الظروف المقامرة أو مزيدا من المقامرة بالحديث عن عقد سياسى جديد، يكفى ما تكفل به البعض من تدمير لبعض العلاقات العربية وإساءة للعلاقات الدولية، وجعل لبنان فى محور لا يمثل كثيرا للبنانيين الذين يميلون إلى الاستقرار وإلى الشرعية الوطنية والعربية والدولية، وتاريخ لبنان يخبرنا عن كثير من الحالات المشابهة التى مر بها أكثر من فريق كان يشعر بفائض القوة وحاول أن يغير من موازين الحكم، لكن فى النهاية دفع أثمانا باهظة.