سيرته بين الناس وتضحياته رصيد لا ينتهى تصدى للمجرمين وقُطّاع الطُرق حتى أنفاسه الأخيرة «لم تساعده طبيعة عمله فى أن يجلس مع أبنائه سوى مرات من صنع الصدفة، فقد أدمن العمل الشرطى واكتفى أن يتابع التفاصيل الأسرية عبر الهاتف، لكن فجأة عاد الأب يوما مبكرًا ليتناول معنا وجبة العشاء مع تقديم النصائح المعتادة من كل أب لأبنائه بحثهم على العمل والنجاح وتحرى الدقة فى اختيار الأصدقاء، والتكاتف كأشقاء فى مواجهة نوائب الزمن.. كانت نظراته لشقيقتى الصغرى تحمل شيئا غير مفهومًا فيها شئ من التمنى مصحوبا بالخوف من المستقبل.. لم اكن أعلم أنه العشاء الأخير وأن تلك النصائح هى أخر عهده بنا». بهذه الكلمات بدأ الابن الأكبر للشهيد العميد عاطف الإسلامبولي، كلماته فى منزل الأسرة بالمنطقة الزراعية على الأطراف الجنوبية للبدرشين، تلك البيئة الريفية التى ضربت أروع مثال للتضحية والفداء وقدمت للتاريخ قصة من أروع قصص البطولات كتب القدر السيناريو وفق حلقات تملؤها الشموخ والبسالة. يقول أحمد الابن الأكبر للشهيد عاطف الإسلامبولي: «بعد تناولى للعشاء مع والدى ذهبت لغرفتى كى أخلد للنوم وما إن غرقت فى نومى حتى جاءتنى جدتى المتوفاة فى منامى ومعها بشر كثير ونساء لا يحصين عددا وجدتها تأخذ والدى وهى تقول هيا بنا لقد كان من المفترض أن تموت منذ زمن طويل، لكن القدر أمهلك حتى كبر أبناؤك وأدرت شئون مستقبلهم.. آن الأوان أن تستشهد واصطحبته للقبور والسيدات يطلقن الزغاريد وكأنه فى حفل زفافه.. استيقظت من النوم وأسرعت لوالدتى أحكى لها ما رأيته فى منامي، فإذا هى تضرب بيدها على قلبها وطلبت منى الهاتف للاتصال بوالدى لكن شبكة المحمول كانت ضعيفة فى طريق الأوسطى الذى تنعدم فيه الاتصالات.. لم نتمكن من الاطمئنان عليه ولم يمض على حلمى ساعتين حتى دق رنين الهاتف فإذا هو صوت المجند الذى تعود مرافقة أبى يختلط الصوت بالدموع ويخبرنا باستشهاد الوالد وبذلك تم تفسير رؤياي». كان الراحل منذ أن تخرج فى كلية الشرطة يعمل بدائرة مديرية أمن الجيزة تدرج فى معظم مواقعها لكن أغلب عمله فى المباحث وكان يشعر أن «قُطّاع الطرق» والذين يستوقفون المارة وأصحاب السطو وترهيب الآمنين بينه وبينهم ثأر، فكان يأخذ الأمر على عاتقه بشيء من التحدى الذى يفوق طبيعة عمله كرجل شرطة إذ قضى زهرة شبابه يطارد هؤلاء ولم يتردد لحظة واحدة فى القبض عليهم دون أى مهابة منهم. يكمل نجل الشهيد: «والدى أنجبنى وأخ يصغرنى وأخت ولم نقض معه وقتا طويلا فقد كرس جهده للعمل ومطاردة المجرمين والخارجين عن القانون، وما عرفناه إلا خمس سنوات كان خلالها مديرا لمكتب حكمدار الجيزة هذه الفترة من حياتنا التى عرفناه فيها أب وإنسان لكن باقى العمر قضاه فى أقسام الشرطة وعلى الطرقات حتى لحظات النهاية». وعن تفاصيل الحادث يقول: «والدى فى نفس اليوم الذى استشهد فيه كان يسير على طريق الكريمات فوجد سيارة معطلة يقف أمامها رجل وبداخلها بناته وزوجته، ولم يكن مع والدى سيارة الشرطة، وكعادة رجال المباحث يرتدون ملابسا مدنية كان معه سيارة الدليل، فاقترب من الرجل وعرف منه أن السيارة معطلة وان هذه المنطقة يخرج منها المجرمون من قطاع الطرق، وطلب منه أن يترك معه أحد المجندين وأن يصطحب والدى زوجة الرجل وبناته لأقرب استراحة على الطريق حفاظا عليهم من بطش المجرمون فلم يصدق الرجل أنه مفتش المباحث وخشى أن يترك أسرته، تسير معه فأطلق والدى رصاصات من مسدسه فى الهواء حتى يرهب أى شخص يحاول الاقتراب من المكان وانطلق فى طريقه، وبعد ساعات انطلق الرجل بسيارته بعد تصليحها ووجد فى الكمين والدي، فأيقن أنه مفتش المباحث فهبط الرجل من السيارة من جهة إليه وهو فى غاية من الحرج، قدم كلمات الاعتذار لوالدي». ويضيف: «لم تمض دقائق ووردت للوالد معلومة تفيد أن سبعة من المجرمين يترصدون سيارة لنقل الأموال وأنهم يريدون الاستيلاء عليها، فقرر التوجه لمكان الإشارة إلا أن الدليل المرافق له حذره أن هؤلاء المجرمون لديهم أسلحة آلية، واكتشف والدى أن خزينة المسدس ليست بها سوى خمس رصاصات فقط، وأنها غير كافية لمطاردة معتادى إجرام لكن الضرورة والواجب كانت دوافعه مهما كانت الصعوبات، فقال للدليل إنه لن يسامح نفسه اذا تمكن هؤلاء المجرمون من الاستيلاء على السيارة وما بها وإذا أطلقوا الرصاص على قلبه فإنها فرصة للشهادة، وانطلق إلى مكان البلاغ ولم يمهله المجرمون فأطلقوا عليه سيلا من الرصاص». ويتابع: «جاءت سيارة الإسعاف لنقله لأقرب مستشفى فإذا بسائق الإسعاف يحاول وضع جهاز التنفس له فإذا به يرفض ويقول إنه يرى الجنة أمامه وأنه يرغب فى الشهادة فلقنه السائق الشهادة مايقارب لخمس مرات». ويكمل: «والدى لم يكن موظف يحب عمله فقط لكنه كان يشاع أنه يؤدى رسالة سامية تفوق حدود الوظيفة، وأنه كان حين ينصحنا لايفوته التأكيد على احترام هذه الرسالة.. لم أنس فى العشاء الأخير والدى وهو يقول لنا كنت أتمنى أن أطمئن على ابنتى وأن أفرح بها وأراها ترتدى الفستان الأبيض وأسلمها لمن يستحقها، وقد تحقق له ماكان يريد فإذا بها قد تمت خطبتها على شاب من أسرة طيبة، هو النقيب طيار محمد أبوشميرة من قرية المرازيق وهو يحاول أن يعوضها حرمان الأب الحنون.. نعم كان والدى حنون رغم طبيعة عمله التى تتطلب بعض الشدة لكن إنسانيته كانت تفوق اى معنى للإنسانية.. وجدنا ذلك فى تعامله مع الغلابة من أبناء البلدة عندما كان أحدهم يقصده فى أمر لم يتوان حتى يحقق مطلبه ولم يتأخر عن أداء واجب من واجبات الناس إذا كان الواجب عزاء لا يتأخر وإذا كانت دعوة لحضور حفل زفاف ماان يخرج من عمله حتى يتوجه مسرعا لأداء الواجب كان دائما يحدثنا عن جبر الخواطر وان الفقراء هم الأولى بالاهتمام لأنهم وسيلته لدخول الجنة». ويضيف قائلا: «والدى كان أصغر رئيس للمباحث إذ كان عمره 29عاما وكلفه اللواء الراحل عبد الوهاب خليل مدير الإدارة العامة لمباحث الجيزة وقتها رئاسة مباحث مركز أطفيح وكان معظم عمله فى أطفيح والصف وهذه مناطق دائما ملتهبة تحتاج إلى رجل مباحث له مواصفات وقدرات خاصة وكان ناجحا فى عمله.. ونجح فى إنهاء العديد من الخصومات الثأرية منها صلح الكدابة وعرب أبو ساعد، وهذه المعارك كانت عمرها 13 عاما ونجح فى تجميع العائلتين وتقديم إحداهما الكفن وحقن الدماء وإنهاء الصراع وتجنيب الأجيال اللاحقة ويلات الدمار والخراب». وعن سيرته بين الناس يقول: «كان الأهالى فى تلك المناطق يلقبونه بلقب شيخ العرب لأنه كان يحب الحلول الودية، ويفضلها عن السير فى الإجراءات والمحاكم وهذه عادات وتقاليد الريف، فقد كان يحول بيتنا فى أوقات فراغه لدار مناسبات يلتقى فيها المتخاصمون للتصالح ويخرجون منها احباب متحابون.. وعندما استشهد والدى وجدنا الخير الذى قدمه فى حياته رأيناه فى تعاملات الناس وفى عيونهم وأكثر من ترجموا عليه من الطبقات الفقيرة ممن احسن معاملتهم». «ومن المفارقات الغريبة (يضيف نجل الشهيد)، أن والدى عندما تلقى خبر استشهاد العميد طارق المرجاوى فى أحداث النهضة عند جامعة القاهرة على يد الجماعة الإرهابية ظل يبكى بكاء مريرا على فقده لأنه كان من أصدقائه المقربين ولعب القدر دوره فقد استشهد المرجاوى فى يوم 1 إبريل عام 2014، وهو نفس اليوم الذى استشهد فيه والدى عام 2015، وكأن القدر جمع بينهما فى نفس اليوم ونفس الموعد ليلتقيان معا فى الجنة». وتحدث أحمد عن والدته التى فارقت الحياة قبل عام، قائلا: «كانت أمى هى الأب والأم فى غياب أبى وانشغاله بعمله، وكانت دافعًا وحافزًا له حملت عنه مسئولية الأسرة وثلاثة من الأبناء بكل مشكلاتهم وأعبائهم، وكانت ابنة عمه التى تقدر مسؤوليته وترى أنها تقوم بواجباتها تجاهه، وعندما لقى ربه شهيدًا لم تتردد وحرصت أن يتقدم شقيقى لكلية الشرطة، وهو الآن ملازم أول بأكاديمية الشرطة فى نفس عام الاستشهاد، من أجل اكتمال مسيرة أبى وبالفعل أخى يلقن الطلاب بالأكاديمية دروسًا فى الولاء والانتماء، وواجبات الحفاظ على أمن الوطن واستقراره، ويرى فى مكانه الذى حرص وزير الداخلية اللواء محمود توفيق على وجوده فيه، أنه المكان المناسب لتقديم الرسالة وغرس القيم النبيلة فى عقول ووجدان طلاب الشرطة وماتعلمه من والده على مدى رحلته العملية وكذلك ماتربى عليه والده من قيم الريف المصرى وعاداته وتقاليده هو مايحاول توصيله وحثهم عليه ليخرج ضباط يجمعون بين أصالة الريف وقيم الوظيفة». وعن أمه الراحلة يقول: «عندما ماتت أمى شعرنا أننا بالفعل قد فقدنا الأب والأم لما كانت تفعله معنا ومع أى مشكلة نواجهها فى حياتنا نشعر بالحاجة للأب والأم معا.. لكن ماغرسه الأب فينا هو التماسك الأسرى الذى يهون علينا متاعب الحياة، ويذلل من أمامنا أى مصاعب». أما عن دور الدولة، فقد وجه نجل الشهيد عاطف الإسلامبولى الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى الذى لم ينس دماء الشهداء، وتضحياتهم بل قام بتعيين عدد من أسرهم فى مجلس النواب، ولم تتركنا وزارة الداخلية ففى كل تكريم يدعوننا وقاموا بتعيينه باحث قانونى بمباحث الكهرباء، وكذلك تعيين شقيقته بالسجل المدنى بالبدرشين، وهو تتويج لإسم والده وعرفانا بتضحياته وهذه شيم الدول الكبرى ذات الأصل العريق.