د. عبد المنعم سعيد عشر سنوات مضت على ثورة 25 يناير 2011، وأيا ما كان الرأى فيها فإنها باتت واحدة من أيامنا العظمى التى لا يمكن لمؤرخ أن يتجاهلها فى تشكيل ذاكرتنا عن مصر المعاصرة؛ ولا لقانونى أن يغفل عنها فهى واقعة فى مقدمة دستورين يحكمان واقعنا الحالى على المستوى العام أو الشخصي. لخص صديق أمريكى الموقف عندما سألنى عما إذا كنت فى ميدان التحرير خلال الثورة، وحينما أجبته أننى لم أكن هناك أخذته المفاجأة لأن كل المصريين الذين قابلهم أخبروه بأنهم عاشوا فى الميدان خلال الثورة كلها. تذكرت ساعة رد فعله، أنه فى الذاكرة السياسية الأمريكية فإن هؤلاء الذين لم يحضروا وود ستوك لم يعرفوا الستينيات وما كان فيها من ثورات الطلاب والشباب. قلت لصديقى فى النهاية إذا كان الوجود فى ميدان التحرير قد أصبح واحدا من مواصفات المصري، فربما يكفى أننى كنت هناك بين عامى 1968 و1973. .فى ذلك الوقت، ربما مثل كل أبناء جيلى ممن انزعجوا بشدة مما جرى فى حرب يونيو 1967، وعقب الهزيمة أصبحت نشطا فى السياسة الثورية محتفظا دائما بهدف أساسى هو تحرير الأراضى التى احتلتها إسرائيل ومحاسبة هؤلاء المسئولين عن الهزيمة عبد الناصر ونظامه. وفى 21 فبراير 1968، ظهرت هذه المشاعر التى شارك فيها غالبية من كانوا فى جيلى عندما انطلقت أولى مظاهرات ضد نظام عبد الناصر. وبينما شاركت فى المظاهرات، والكتابة فى صحف الحائط (لم تكن المدونات ولا الفيس بوك أو التويتر قد ظهرت بعد) وارتبطت بعدد من الجماعات الثورية اليسارية، لم يتغير إيمانى بأن الهدف هو تحرير الأراضى المحتلة. وحتى عندما التحقت مجندا بالقوات المسلحة فى سبتمبر 1970 فقد بقيت مشاركتى فى العمل السياسى الذى أكد ضرورة الانتقام لهزيمة يونيو 1967 وتحرير سيناء. وفى يوم السادس من أكتوبر 1973 عبرت وحدتى قناة السويس فى الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم، وأصبحت على الجانب الآخر داخل الأراضى التى تحتلها إسرائيل فى فجر اليوم التالي. هذا العبور للقناة وضع علامة النهاية على ثورتى الشخصية، والبداية لمستقبلى العملي. ولكن الحقيقة كانت أننى كنت على أى حال فى ميدان التحرير، أو بالقرب منه طوال أيام الثورة الثمانية عشر. وللدقة، فقد كنت فى مبنى الأهرام الذى يقع فى شارع الجلاء على بعد 500 متر من الميدان أو أقل من 300 متر من ميدان عبد المنعم رياض الذى يعتبر امتدادا لميدان التحرير وعاش فيه من الثوار من لم يجد لنفسه مكانا داخل الميدان الكبير. وخلال مدة الثورة كلها عشت فى مكتبى فى الدور العاشر من مبنى الأهرام حيث كان ميدان التحرير على مرمى حجر، ومن تحتى كان شارع الجلاء وكوبرى السادس من أكتوبر حيث يجرى أهم شرايين المدينة حاملا بشكل مستمر موجات متعاقبة من الثوار. فى ذلك الوقت كنت منزعجا بشدة لأننى فوجئت، ربما مثل كثيرين، بالثورة، ولكننى الآن بعد مضى هذه المدة، وربما بأثر رجعي، ما كان على أن أصاب لا بالمفاجأة ولا بالدهشة. فبحكم منصبى فى إدارة الأهرام حيث كانت تقوم بطباعة 85٪ و90٪ من التوزيع للصحافة المصرية كانت هناك الكثير من المعلومات المنذرة التى يمكن استخلاصها بمقارنة أعداد الصحف الموزعة على 3000 نقطة توزيع بين الصحف القومية وصحف المعارضة. وبمعاونة زملاء متخصصين فى تحليل المعلومات أعطينا الأولى لونا أخضر، والثانية اللون الأحمر؛ وكانت النتيجة التى كنا نحللها بصفة يومية هى أنه حتى شهر سبتمبر 2010 كان اللون الأخضر متفوقا وباكتساح. وخلال الفترة التى قادت حتى الانتخابات النيابية أخذت الخريطة فى الاحمرار تدريجيا؛ وما أن هل شهر يناير كانت الخريطة قد باتت حمراء. وبحكم منصبى كرئيس لمجلس الإدارة حضرت عددا من المناسبات المهمة التى حضرها الرئيس مبارك ومعه قدر غير قليل من النخبة السياسية القائدة للبلاد، كان منها رحلة إلى دول الخليج – الإمارات وقطر والبحرين – وكما هى العادة جاء الرئيس فى نهاية الرحلة لكى يتحدث مع الصحفيين ويتلقى منهم الأسئلة. وكنت آخر من سأل وكان السؤال عما إذا كان الرئيس سوف يقوم بعمل درامى قبل الانتخابات الرئاسية التى كان مقررا لها فى شهر سبتمبر المقبل؟ قال الرئيس مثل ماذا د. سعيد، فأجبت مثل تغيير وزارى نظرا للخلافات بين الوزراء ولأن المسيرة الإصلاحية تفقد قوة الدفع فيها؛ وتشكيل لجنة قومية لمراجعة المواد 76و77و88 من الدستور. وجاءت إجابة الرئيس لا، سوف انتهى من الانتخابات أولا، وبعدها سوف انظر فى هذه الأمور. كان الرد مؤكدا أن الرئيس سوف يترشح، وقبل أسبوع من الثورة جرت مناسبة للاحتفال بالدكتور مجدى يعقوب ومنحه قلادة النيل نظرا لخدماته من أجل الإنسانية؛ وقبل يومين منها الاحتفال بعيد الشرطة؛ ولم يكن فى أى منها ما يشير إلى أن هناك حالة من القلق داخل النظام أو ما يشير إلى أنه بقيت أيام حتى يطاح به كلية. كان الهم الأول طوال أيام الثورة هو حماية مؤسسة الأهرام ومبناها، فكما الحال فى المؤسسات الصحفية كان هناك أطنان من الورق، والكيماويات السريعة الاشتعال؛ وكان هناك الخوف من الانقسام بين من ظهروا مؤيدين للثورة ومن عارضوها. والحقيقة أن بعضا سجلوا تأييد النظام فى بيان فى البداية، ثم طالبوا فى بيان آخر برحيله فى النهاية، وهو ما رفضت تعليقهما. وفى مبنى مجمع المحاكم الملاصق للأهرام جرت ثلاثة حرائق ونهب، وفى واحدة منها جرى إطلاق الرصاص الذى أدى إلى وفاة أهرامى تطوع لحماية المؤسسة (توفى آخر فى ميدان التحرير)؛ وبينما كانت الجموع تأتى وتذهب صاخبة ومائجة كان الخوف دائما على مدخل الأهرام الزجاجى من التخريب؛ ولم يوقفها إلا جماعة شجاعة نجحت فى إقناع المتظاهرين بالسلامة. وبعد أن بات الأهرام ممنوعا من دخول ميدان التحرير، فإن إصدار ملحق الميدان فتح الباب على مصراعيه. وبعدها بدأت مرحلة أخرى من تاريخ الأهرام ومصر كلها.