د. دينا شحاتة تكتب يواجه الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، بشكل مبكر، أول اختبار داخلي بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويتعلق بالموقف من اليمين المتطرف. فقد كان الحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدةالأمريكية، تقليديًا، يعبر عن تحالف بين رجال الأعمال ورجال الدين الإنجيليين وممثلين عن الولايات الريفية والجنوبية، وكانت أجندة تيار اليمين تركز أساسًا على قضيتين أساسيتين هما تحرير الاقتصاد من القيود الحكومية، وخفض الضرائب التي تدفعها الشركات والشرائح العليا من ناحية، وقضايا اجتماعية مثل الحفاظ على قيم الأسرة ومناهضة الإجهاض من ناحية أخري. وكان اليمين المتطرف يمثل أقلية مهمشة داخل الحزب لها تأثير محدود على سياسات وأداء مرشحيه في الانتخابات. خريطة معقدة ويتكون اليمين المتطرف من تيارين رئيسيين متداخلين إلى حد كبير: التيار الأول، تمثله جماعات مثل الكلو كلكس كلان KKK، والجماعات النازية الجديدة، ويتبنى أفكارًا قائمة على العنصرية وتفوق الجنس الأبيض ويهدف إلى تطهير الولاياتالمتحدةالأمريكية من الأجناس الأخرى. والتيار الثاني، يتبع أفكارًا ليبرتارية libertarian، وهو أقرب إلى الجماعات الأناركية اليسارية، حيث يرفض دولة الرفاه الحديثة، فضلًا عن تمدد سلطات الحكومة الفدرالية، ويسعى إلى تعزيز سلطات المقاطعات والولايات في مواجهتها، ويؤكد على حق المواطن في حمل السلاح لمناهضة محاولات الحكومة الفيدرالية لتعزيز سلطاتها. ويشمل هذا التيار عددًا من الحركات المسلحة وغير المسلحة، مثل حركة حزب الشاي Tea Party Movement، والجمعية الوطنية للبنادق National Rifle Association، وحركة المليشيات المسلحة، وحركة المواطنين أصحاب السيادة Sovereign Citizens، وحركة حافظو القسم Oath Keepers، وحركة الثلاثة في المائة 3 Percenters، وانضمت لها في السنوات الأخيرة حركات جديدة مثل حركة كانون Qanon، وحركة الفتيان الفخورين Proud Boys. وبالرغم من تباين أولوياتهم، إلا أن أعضاء اليمين المتطرف يجمع بينهم عداء مشترك للحكومة الفيدرالية وممثليها، وتنتشر بينهم نظريات مؤامرة حول تواطؤ الأخيرة مع جماعات شيوعية واشتراكية من أجل تأسيس نظام حكم اشتراكي شمولي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإقامة نظام عالمي جديد تقوده الأممالمتحدة والليبرالية العالمية. ويتبنى أعضاء هذه الجماعات توجهات عدائية شديدة للعولمة والانفتاح الاقتصادي والمنظمات الدولية وفي مقدمتها الأممالمتحدة، كما يرفضون انخراط الولاياتالمتحدةالأمريكية في صراعات مسلحة في الخارج، فضلًا عن أي سياسات اجتماعية مثل التأمين الصحي الشامل والتأمين الاجتماعي والحد الأدني للأجور، ويرونها جزءًا من مؤامرة لتأسيس نظام اشتراكي شمولي في البلاد، وأخيرًا يبدي العديد منهم مواقف عدائية للتيار الجمهوري التقليدي الذي يدعم سياسات العولمة والتعاون الدولي والانخراط العسكري في الخارج ومكافحة التغير المناخي. أسباب عديدة ومنذ التسعينيات، وخاصة منذ انتخاب الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2008، بدأ نفوذ هذا التيار يتصاعد داخل الحزب الجمهوري لعدة أسباب منها قيام أوباما بتبني العديد من السياسات الطموحة مثل تطبيق التأمين الصحي الشامل، إلى جانب اتخاذ العديد من الإجراءات الهادفة إلى حماية البيئة والتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، هذا بالإضافة إلى كون أوباما أول رئيس أمريكي أسود. ونتج عن هذه التطورات تشكل تحالف بين بليونيرات النفط، وفي مقدمتهم الأخوة ديفيد وشارلز كوكمن ناحية، وبين الحركات التي تنتهج أفكارًا عنصرية وليبرتارية libertarian مناهضة للحكومة الفدرالية من ناحية أخري. وأعطي هذا التحالف دفعة قوية لليمين المتطرف، حيث قام الأخوة كوك وآخرون بضخ مئات الملايين من الدولارات لدعم مرشحي هذه الجماعات في الانتخابات النيابية وتمويل منظمات فكرية وسياسية تؤيد هذا التيار. وقد نجحت هذه الجهود في الدفع بعدد كبير من ممثلي اليمين المتطرف إلى مجلسي الشيوخ والنواب، كما أسفرت عن انتشار أفكار هذا التيار بشكل واسع وسط قواعد الحزب الجمهوري والمنصات الإعلامية اليمينية، مما كان له دور مهم في صعود المرشح دونالد ترامب إلى الرئاسة عام 2016. وقد أدى التصاعد غير المسبوق لليمين المتطرف في السنوات الأخيرة إلى تكتل التيارات الليبرالية واليسارية حول المرشح الديمقراطي جو بايدن بشكل واسع، كما انضم لهم ناخبون يمثلون تيار يمين الوسط داخل الحزب الجمهوري، والذي تم تهميشه في السنوات الأخيرة، مما أسفر عن إسقاط ترامب في الانتخابات الأخيرة. ولكن يظل صعود نفوذ اليمين المتطرف داخل الحزب الجمهوري وداخل المجتمع الأمريكي مصدر قلق وعدم استقرار في الفترة القادمة، خاصة بعد لجوء أنصار هذا التيار لاستخدام العنف في محاولة لتعطيل عملية انتقال السلطة للحزب الديمقراطي، وقد أكدت تقديرات عديدة للأجهزة الأمنية الأمريكية أن الجماعات اليمينية المسلحة أصبحت أكبر مصدر للعنف والإرهاب في المجتمع الأمريكي. إجراءات مطلوبة ويتطلب احتواء هذه الحركات إدخال إصلاحات هيكلية مهمة على النظام الانتخابي والسياسي الأمريكي، وفي مقدمتها تبني إجراءات تحد من دور الأموال السوداء dark money أو التبرعات مجهولة المصدر في الانتخابات الأمريكية، حيث أصبحت هذه التبرعات تمارس دورًا فارقًا في فرص المرشحين في الفوز في الانتخابات، كما أدت إلى سيطرة مصالح رأسمالية بشكل متزايد على النظام السياسي، مما جعل المواطن يشعر بالاغتراب والغبن تجاه النخبة السياسية. كما يتطلب ذلك إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل أكثر عدالة وتوازنًا، حيث قام الحزب الجمهوري بشكل ممنهج على مدى عقود برسم الدوائر الانتخابية بشكل يعزز من ثقل الناخبين البيض ويقلل من ثقل الفئات الأخرى في ظاهرة عرفت بالgerrymandering أو التلاعب الانتخابي، مما أدي إلى انعدام التوازن بين الكتل التصويتية المختلفة لصالح الناخبين البيض من الطبقتين الوسطى والدنيا. كذلك يستوجب ذلك بناء تحالف أو توافق بين ممثلي يسار ويمين الوسط في الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول قضايا مهمة وفي مقدمتها ضرورة إصلاح النظام الانتخابي. وأخيرًا يتطلب تبني سياسات اقتصادية مختلفة تؤدي إلى إضعاف التحالف الذي نشأ بين اليمين المتطرف ورجال أعمال يمثلون قطاع النفط، وذلك عبر ضخ استثمارات ضخمة في قطاعات الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر في المناطق الأكثر تضررًا من آثار العولمة. والجدير بالذكر أن إجراء هذه الإصلاحات لن يكون مهمة سهلة على الإطلاق وسوف يتطلب إرادة ومهارة سياسية ضخمة،خاصة وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية تواجه حاليًا أزمة اقتصادية غير مسبوقة ويعاني مجتمعها من الانقسام والاستقطاب وتخضع الكثير من مؤسساتها لنفوذ الشركات الكبرى والمصالح الخاصة التي تعارض هذه الإصلاحات.