ترامب أول رئيس أمريكى لا يتمتع بخبرة سياسية ولم يؤدِ الخدمة العسكرية.. وأقنع قاعدته الانتخابية بأنه المخلص من نخبة سياسية تقليدية فى نظام يحتضر عنصرية ترامب اختيارية لخدمة مصالحه السياسية.. ويعتبر استمرار الحرب الثقافية الاجتماعية داخل أمريكا ضرورة لتعبئة الناخبين الرئيس الخامس والأربعون انتهج سياسات تعكس التزاما جادا بشعبوية يمينية أمريكية جديدة سواء على الصعيدين الداخلى أو الخارجى فاجأ دونالد ترامب العالم بالوصول لمقعد الحكم بالبيت الأبيض عقب انتصاره الساحق فى انتخابات 2016 على المرشحة الديمقراطية آنذاك هيلارى كلينتون. وتعد سنوات حكم ترامب الأكثر إثارة فى تاريخ أمريكا الحديث، وضاعف من إثارة آخر فصولها قبل انتخابات 2020، وصول فيروس كورونا المستجد إلى الأراضى الأمريكية، واقتحام الفيروس للبيت الأبيض وإصابة الرئيس ترامب ذاته به، وهو ما يقلب الأوضاع الصحية والاقتصادية والسياسية رأسا على عقب ليخرج ترامب من البيت الأبيض بعد هزيمته فى الانتخابات التى أجريت يوم 3 نوفمبر الحالى. وقد شكك البعض فى قدرات الرئيس ترامب العقلية والمعرفية، وآخرون يرونه غير مهيأ للحكم فى ظل تعقيدات وتشابكات القضايا الكبرى الداخلية والخارجية، كما يراه البعض رئيسا لا يكترث بالدستور أو بالتقاليد السياسية الأمريكية، وآخرون يشككون فى معرفته بتفاصيل وطريقة عمل الحكومة الفيدرالية، وعلى النقيض من كل ذلك يراه ملايين الأمريكيين سياسيا عبقريا غير تقليدى. ونلفت النظر إلى أن هذا الكتاب صدر قبل أسابيع قليلة من هزيمة دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام جو بايدن. ونجح ترامب فى هز وتغيير طبيعة علاقة بلاده بالعالم من حولها، وفى هذا ينجح قليلا ويفشل كثيرا. وعلى الرغم مما يمثله الرئيس ترامب من تهديد للديمقراطية الأمريكية، إلا أنه وفى الوقت ذاته، يمثل نتاجا لها ولآلياتها. يحاول كتاب «ترامب أولا... كيف يغير الرئيس أمريكا والعالم» الإجابة على سؤال كيف ولماذا وصل ترامب لأهم منصب سياسى فى عالم اليوم، وما يعنيه كل ذلك لأمريكا والعالم؟، وكذلك فك شفرة الرئيس ترامب من خلال تحليل سياساته ومواقفه التى يجمع بينها التناسق قليلا والتناقض كثيرا. ويبقى الانتظار قائما حول إذا ما كان ما يقوم به ترامب يبشر بطريقة جديدة تبقى بعد رحيله ويقتدى بها الرؤساء القادمون، أم إنها تمثل خروجا مؤقتا عن المألوف ينتهى بخروجه من البيت الأبيض وبعدها تعود التقاليد الراسخة للسياسية الأمريكية كما عرفها العالم والأمريكيون. ويشير الكتاب إلى أن سنوات ترامب الأربع فى الحكم كانت الأكثر إثارة فى تاريخ أمريكا الحديث، ويمكن تقسيم تلك الفترة إلى مرحلة «ترامب وأمريكا قبل كورونا»، و«ترامب وأمريكا أثناء كورونا»، ولا أحد يعرف بعد متى ستبدأ مرحلة «أمريكا ما بعد كورونا». وقد دفع ذلك بانتخابات 2020 الرئاسية لتصبح الأكثر إثارة فى التاريخ الأمريكى، فلم تجر أى انتخابات فى ظل انتشار جائحة من قبل تحصد يوميا حياة مئات الأمريكيين، إضافة لإصابات يومية لا تزال تُقدر بعشرات الآلاف. ويلفت الكتاب إلى مظاهر استثنائية لانتخابات 2020 من بينها أنها أجريت بين مرشحين فى السبعينيات من العمر، الرئيس دونالد ترامب (74 عاما) الذى جاء من خارج المنظومة السياسة الأمريكية الحزبية التقليدية، والآخر هو جو بايدن (77 عاما) الابن البار للمنظومة السياسة الأمريكية التقليدية التى قضى بين مؤسساتها نصف قرن من عمره. وعلى الرغم من تداعيات فيروس كورونا اللامحدودة، لم تبتعد الانتخابات أو النقاشات السياسة عن ترامب، فلازال الرئيس طاغيا على كل موضوعات الساعة السياسية ليس فقط فى الولاياتالمتحدة، بل فى مختلف أنحاء العالم. ويشير الكتاب إلى أنه قبل مائتين وأربعين عاما، لم يتوقع الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية عندما اجتمعوا للاتفاق على شكل الدولة الجديدة وطبيعة الدستور وعلاقة الحاكم بالمحكومين أن يصل شخص مثل دونالد ترامب لسدة الحكم. لكن بعيدا عن التاريخ الأمريكى وما يراه الكثيرون استثناء أمريكا، أو ربما بسببها، فاز ترامب بانتخابات 2016 ووصل للحكم ودخل البيت الأبيض باعتباره الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. ومنذ تنصيب ترامب رئيسا فى العشرين من يناير عام 2017 لم تتوقف المعارك والخلافات بينه وبين جميع ألوان الطيف السياسى الأمريكى، من الديمقراطيين للجمهوريين، من الليبراليين إلى المحافظين، من المهاجرين إلى النخبة، ومن المزارعين إلى رجال الدين، ومن الحلفاء الخارجيين إلى الأعداء التقليديين. لقد نجح ترامب فى هز علاقته بالجميع، حيث يعمل على تغيير طبيعة علاقة بلاده بالعالم من حولها، وفى هذا ينجح قليلا ويفشل كثيرا. ومن بين خمسة وأربعين رئيسا عرفتهم الولاياتالمتحدة، يُعد ترامب الوحيد الذى لم يُنتخب من قبل لأى منصب سياسى أو يخدم بالقوات المسلحة الأمريكية قبل وصوله للبيت الأبيض. كل رؤساء أمريكا السابقين إما تم انتخابهم فى مناصب سياسية مختلفة مثل عضوية مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، أو انتخبوا كحكام ولايات قبل وصولهم للبيت الأبيض، أو جمعوا بين كليهما. فعلى سبيل المثال تم انتخاب الرئيس جون كيندى كسيناتور لولاية ماساشوستس، فى حين انتخب رونالد ريجان حاكما لولاية كاليفورنيا، وشارك جورج بوش الأب فى الحرب العالمية الثانية قبل أن ينتخب حاكما لولاية تكساس، وذلك قبل أن يصلوا لمنصب الرئيس الأمريكى. ومن بين كل رؤساء أمريكا، يقف ترامب وحيدا كرئيس تم انتخابه دون وجود خبرة سابقة فى أى منصب سياسى، أو أى خبرة سابقة فى أرض المعارك والحروب. وعلى الرغم من ذلك نجد أن تأثير ترامب على الداخل الأمريكى أو على العالم من حولنا كبيرا جدا مقارنة بأى رئيس سابق. وربما لهذا السبب تحديدا يتمتع ترامب بدعم غير محدود من فئات وقواعد انتخابية جمعت بينها الرغبة فى التغيير. حيث مثل ترامب لهذه الفئات التغيير فى أوضح صوره، فقد أقنعهم أن النظام السياسى الأمريكى فاسد ويحتضر، وأنه هو المخلص لهم من نخبة سياسية تركزت فى مدن الساحلين الأطلنطى والهادى، نخبة سياسية تقليدية لم تعد تكترث ببقية أمريكا والأمريكيين القابعين فى المناطق الواقعة بين المحيطين. وقد أظهرت السياسات التى اتبعها ترامب التزاما جادا بشعبوية يمينية أمريكية جديدة، سواء تعلق الأمر بالشأن الداخلى أو السياسة الخارجية. واستطاع ترامب الذى جاء مغردا من خارج سرب السياسة التقليدية الوصول للحكم بانتصاره الساحق فى انتخابات 2016 على أكبر مؤسستين سياسيتين قوة ونفوذا فى أمريكا خلال العقود الأخيرة. والحديث هنا عن عائلة بوش التى مثلها فى الانتخابات السابقة التمهيدية للحزب الجمهورى المرشح جيب بوش حاكم ولاية فلوريدا السابق، وعائلة كلينتون التى مثلتها المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون. ويؤمن أغلب مناصرى ترامب به وبما يقوم به، بل يعتقدون كذلك أن كل ذلك من أجل خدمة المصالح الأمريكية. أما عن طبيعة الخطاب السياسى لترامب، فيشير الكتاب إلى أن الرئيس الأمريكى اعتمد على خطاب سياسى يقوم على مبدأ «أمريكا أولا» ففى خطابه الأول خلال مراسم تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة فى العشرين من يناير 2017، قال ترامب: «إن لاحتفال اليوم معنى خاصا جدا، لأننا اليوم، لا نقوم بمجرد نقل للسلطة من إدارة إلى أخرى، أو من طرف إلى آخر، لكننا ننقل السلطة من واشنطن، ونعطيها إليكم مرة أخرى، نعطيها للشعب». ومثل خطاب ترامب الرسمى الأول تدشينا لرؤية شعبوية أمريكية تنادى «بأمريكا أولا»، معتمدة على صيغة تلائم القرن الواحد والعشرين، مركزة على قصور وسلبيات ونتائج ظاهرة العولمة التى وجهتها وقادتها بالأساس الولاياتالمتحدة، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين خلال العقود الأخيرة، وأدت لخسارة ملايين العمال وظائفهم ونقل مئات الآلاف من المصانع لخارج الولاياتالمتحدة. وتطرق الكتاب إلى النزعة العنصرية لدى ترامب، مشيرا إلى أن الرئيس الجمهورى دأب على نفى اتهامه بالعنصرية، إذ أكد فى عدة مناسبات أنه «أقل شخص عنصرى فى أى مكان فى العالم». لكن نظرة سريعة على سجل ترامب مرشحا كان أو رئيسا لا يتركنا إلا ونحن أكثر قناعة أننا أمام رئيس عنصرى، إلا أن أكثر ما يميز عنصرية ترامب إنها بالاختيار، أى أنه قد لا يكون شخصا عنصريا تقليديا ممن يؤمنون بسمو ذوى البشرة البيضاء فى حالته بالضرورة، بل هو عنصرى بالاختيار خدمة لمصالحه وأهدافه السياسية. ونوه الكتاب إلى أن ترامب عاش كل عقود عمره السبعة فى منطقة مانهاتن بمدينة نيويورك. ومن الصعب على أى شخص أن يكون عنصريا ويستمر فى العيش فى مانهاتن ونيويورك التى لا يتمتع أصحاب أى عرقية أو جنس أو لون أو ديانة بالأغلبية فيها. الجميع هناك أقليات بصورة أو أخرى، ولا يمكن لشخص النجاح فى أى مجال، ناهيك عن حياة الأعمال والصخب والتسلية والتليفزيونات إذا عُرف عنه شبهة العنصرية. ولم يمكن لترامب أن يحقق كل ما حققه قبل وصوله للبيت الأبيض من شهرة تعود لنجاحات كبيرة ومعها بعض الإخفاقات، إذا كان معروفا أنه عنصريا. ولم يكن لترامب أن يعيش ويحيا داخل مانهاتن إذا كان عنصريا. مع بدء حملته الرئاسية قبل نهاية عام 2015، أيقن ترامب أن عليه التميز عن غيره من المرشحين الجمهوريين. واختار ترامب اللعب على وتر قلق ومخاوف الأغلبية البيضاء خاصة من مسيحيى الجنوب الأمريكى من الانخفاض المستمر فى أعداد البيض بين سكان الولاياتالمتحدة. تستخدم المدارس الفكرية الأمريكية عدة تعريفات لوصف معسكر سياسى عريض يتضمن قوى متحفظة اقتصاديا ومتشددة اجتماعيا، ويمينية سياسيا. ويضم هذا المعسكر تيارات واسعة متشابكة يجمع بينها الكثير بالرغم من وجود اختلافات هنا أو هناك. يطلق البعض عليهم التيار المحافظ، التيار الشعبوى، التيار اليمينى، تيار المحافظين الجدد، التيار اليمينى المتطرف.. إلخ، كلها تعبيرات ظهرت لتصف ما يمثله التحالف الذى دفع بدونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016. ونشير فى هذا العرض إلى هذا التيار العريض بوصفة «اليمين الأمريكى». ولا يحرك أى سياسى أمريكى فيما يخرج منه من مواقف أو سياسات أو تغريدات سوى خدمة هدف إعادة انتخابه، ولا يعد ترامب استثناء فى هذا المجال. وكان ترامب وكبار مستشاريه يرون ضرورة بقاء الحرب الثقافية الاجتماعية داخل الولاياتالمتحدة حية ومشتعلة من أجل حشد وتعبئة قواعده الانتخابية الوفية التى يقلقها استمرار زيادة التنوع والاختلاف بين الأمريكيين. وشخصيا لا أعتقد أن ترامب مقتنع بكل التغريدات العنصرية التى تخرج عنه، لكنه يراها وسيلة شديدة الفعالية لنجاحه فى انتخابات 2020. ولتلك التغريدات والمواقف العنصرية من ترامب آثار سلبية شديدة تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى وقوع جرائم وأعمال قتل وإرهاب ممن يؤمنون بسمو الجنس الأبيض. ويبقى التساؤل قائما حول هل ما يقوم به ترامب يبشر بطريقة جديدة تبقى بعد رحيله ويقتدى بها الرؤساء القادمون، أم إنها تمثل خروجا مؤقتا عن المألوف ينتهى بخروجه من البيت الأبيض وبعدها تعود التقاليد الراسخة للسياسية الأمريكية كما عرفها العالم والأمريكيون.