أحدث أعمال الروائى السودانى أمير تاج السر, الذى يواصل فى رعشات الجنوب رسم خريطة السودان الأدبية والإنسانية. وهو مشروع إبداعى بدأ بروايته الثانية سماء بلون الياقوت 1996، وصوّر فيها شمال السودان، بينما حكى فى روايته مسيرة الوجع عن تجربة عمله طبيباً فى مدينة سودانية نائية فى أقصى الجنوب، هى طوكر التى دخل اسمها تراث البلاغة الشعبية فى مصر تعبيراً عن البُعد والنفى والتهلكة، وبعدها أصدر روايته مرايا ساحلية التى عكس فيها صورة ميناء بور سودان، أما روايته الأشهر «مُهر الصباح» (2002)، التى حققت انطلاقته الأدبية، فهى عمل ضخم ذو أبعاد تاريخية، كانت بمثابة وصف السودان، خاصة منطقة دارفور. وبعد سلسلة روايات تلت ذلك وحقق فيها تاج السر مزيداً من المجد والرواج، مثل صائد اليرقات (2011) التى دخلت القائمة القصيرة لبوكر العربية، وزهور تأكلها النار التى دخلت القائمة نفسها فى عام 2018، ها هو الطبيب الأديب أمير تاج السر يعاود الإبحار فى خريطة وطنه الشاسع، ويمضى بعيداً فى الجنوب ليصل إلى مدينة مدارى شبه الحدودية الغائصة فى البُعد الإفريقى لوطنه السودان، والملاصقة لكينيا وأوغندا، والواقعة غير بعيد عن جوبا كبرى مدن جنوب السودان وعاصمة دولته الحالية بعد انفصال الجنوب عن الشمال. الأحداث تبدأ فى عقد الستينيات حين كانت الحرب محتدمة بين متمردى الجنوب وبين الدولة فى الشمال، بل وفيما بين فصائل المتمردين أنفسهم، حتى تم التصالح وما سُمَّى اتفاق الوحدة الوطنية (عام 1972) بين الشمال والجنوب، فحَلّ السلام والوئام - رغم استمرار بعض المناوشات - فى أرجاء الجنوب، ومنها مدينة مدارى حيث تدور أحداث الرواية، وحيث تمتزج أعراق السكان ما بين قبائل العرب والزنوج. ويضرب هذا الامتزاج بجذور تاريخية تسبق اتفاق الساسة المتحاربين على الصعيد القومى بكثير، إذ يعود هذا الوئام لشخصية ومبادرة «ماچوك» أحد زعماء القبائل المحلية التى كانت تتحارب مع العرب الوافدين، وهو زعيم سياسى تحول لقديس أسطورى حين كسر حربته ودعا الجميع لكسر حرابهم ففعلوا، وبارك اندماج أعراق الجنوب بتزاوج الوافدين مع السكان الأصليين، وتحول المكان الذى كسر فيه حربة المقاتل مزاراً شبه دينى لأهالى المنطقة. هنا تلاقى أحد أبطال الحكاية، التى أعطاها تاج السر اسم رعشات الجنوب، مع رعشته الأولى والأخيرة. فجأة تحوّل رابح مدينى، التاجر الأريب وأغنى أغنياء المدينة، سليل أكبر قبائل العرب المستوطنة لذلك المكان، تحوّل من داهية فى الخامسة والخمسين حاز المال والمجد والشهرة، إلى عاشق مسكين طار عقله واستُلب لبُّه، يهيم خلف فتاة زنجية فى التاسعة عشرة، رآها ترقص فى مهرجان الاحتفال السنوى بذكرى ماچوك ذى الحربة المكسورة، فانكسرت حربته, وترك تجارته ودكانه الحاوى كل شىء يخطر أو لا يخطر على البال فى سوق المدينة، وانطلق بسيارته الچيب التى طالما عبرت به الحدود إلى أوغندا وكينيا وقلب إفريقيا لاقتناص المجد التجارى، والتى يسعى بها الآن بين البلدان مطارداً صورة سوشيلا أكوال، ابنة قبيلة الزاندى الزنجية، ويطوف بالمحتالين من قرّاء الغيب بحثاً عن نبوءة تطمئنه أن سوشيلا له. وبعد أن يطمئن أخيرا لبشارة ساحر كينى متخصص فى جبر القلوب الكسيرة، يصل رابح مدينى أخيراً لموطن قبيلة الفتاة ، فلا يجد سوى أطلال وركام محترق، فيكفر بالحب ويقسم أنه شُفى إلى الأبد من داء النساء. وقد صدق فى قسمه, إلا أن رابح مدينى لم يُشف من دائه الآخر، ونقطة ضعفه الكبرى التى كانت مقتله: الإيمان بما يقول السحرة والمنجمون والعرافون.. كما سنرى إن شاء الله فى المقالة القادمة.