قبل أن أبدأ مقالى بما وعدت القارئ به أن أواصل الكتابة عن انتصار بورسعيد 1956 أبدأ بتحية للعالمين الجليلين والطبيبين الكبيرين .د.محمد غنيم و.د.صلاح الغزالى على تناول قضية التعليم الجامعى والجامعات الخاصة وما عرضا له من إشكالات حقيقية، وبما يحتاج بالفعل الى حوار علمى رصين لا تنقصه المصارحة والشفافية من أصحاب الشأن الحقيقيين، وأهل الثقة والكفاءة مما لدينا من أساتذة أجلاء لتبين العثرات والمثالب فيما يحدث الآن، ومن المؤكد يتهدد المستقبل افتقاد العدالة لتعليم وتأهيل الطبيب وعلاج المريض، وإلا فما الفارق بأن يوجد حتى فى الجامعات الحكومية أقسام بمصروفات وهل يختلف إعداد الطبيب فى القسمين، وما ذنب مريض ينام بين أيدى طبيب لم يحسن تأهيله؟! إذا كنا نحارب افتقاد العدالة فى جميع مجالات حياتنا فأولى بها المهمة والرسالة المقدسة للطب والطبيب. وأعود إلى نصر 1956 وأبدأ أيضا بالتعليم فإذا كنا نريد حدوث ثورة حقيقية فيه فيجب أن يكون من أهم ركائزها إعداد أجيال تجيد لغة بلدها وتعرف تاريخها معرفة جيدة .. وللأسف هناك مؤشرات كثيرة تقول إن لغتهم الأم ولسانهم العربى يتعثر ويتكسر وكذا الحال بالنسبة لمعرفتهم بتاريخهم وأهم أحداثه وأبطاله ولا أعرف كيف نريد ان نحفظ الهوية الوطنية لأجيال لا تعرف ولا تحترم لغتها الأم وتاريخ نضال آبائهم وأجدادهم وما ارتكبه الاستعمار من جرائم بحقهم. وإذا كان تقصيرنا فى تدريس تاريخنا يتحمل المسئولية الأكبر عن هذا الجهل بالتاريخ فماذا نقول عن أجيال عاصرت كثيرا من الأحداث المهمة وتحاول التشكيك فيها أو التقليل من أهميتها أو تشويهها، بل يبدو من بينهم من يحاول على استحياء أو بغير استحياء أن ينفى أو يبرر أو يهون خطايا وجرائم الاستعمار. وأقرب الأمثلة ما يحدث بالنسبة لوقائع المقاومة ونصر 1956 هذا لا ينفى انه كان هناك من كانوا لا يعرفون بحق ما وراء أحداث كبرى من مخاز وجرائم استعمارية، وظهر لى هذا واضحا فى تناول تاريخ حفر قناة السويس واعتقاد البعض ان ديليسبس صاحب فكرة حفرها، بينما هى فى الحقيقة تعود إلى قدماء المصريين، ولم تندثر الفكرة فى الحقب التى تتالت وعطلها أحيانا الظن ان مياه احد البحرين أعلى من الثانى حتى جاء ديليسبس الذى لم يكن مهندسا، ولكن يعمل بالسلك الدبلوماسى لبلاده وصديقا للخديو سعيد فى مطلع شبابه، فلما تولى حكم مصر سارع الفرنسيون لإرساله لاستغلال صلاته القديمة بالخديو الجديد وخداعه لتوقيع عقود الملكية والاذعان التى تحولت بها مصر وقناتها الى أملاك خاصة للشركة الفرنسية، والتى حولتها إلى شبه دولة مستقلة داخل الدولة! وكانت الدماء والأرواح وآلاف الشهداء ثمنا قدمته مقاومة بورسعيد بكل الرضا والفداء لعدم استيلاء الفرنسيين على قناتنا مرة ثانية واذا كانت هناك قلة ندعو لها بالشفاء تشكك فى حقيقة بعض هذه البطولات ويحاولون الدفاع عن جرائم ضباط وجنود قوات العدوان ربما على أمل تغييب وتضليل الذاكرة الوطنية، وبما يحول المعتدين إلى منتصرين، وتحولنا إلى مهزومين تماما كما يحاول العدو الصهيونى وبتبجح أنه كان المنتصر فى حرب 1973 وينكر الهزيمة التى أنزلها به جيشنا وغير بها استراتيجيات الحروب ولكن تشويه التاريخ والكذب والادعاء ليس مستغربا على الاستعمار وخدامه والمستفيدين منه .. ترى كم ثمن محاولات القلة لتشويه مقاومتنا ونصرنا فى 1956. لقد اصبح تسجيل وتوثيق تاريخ هذه البطولات وما قام به هؤلاء الأبطال من أحياء أطال الله فى أعمارهم ومن ذهبوا إلى رحاب ربهم فريضة وطنية وأخلاقية ووفاء لا يتأخر عنه المحبون لوطنهم والمعتزون بتاريخه ونضاله وسيرة ومسيرة أبطاله ودماء شهدائه .. هل يوجد فى تاريخ المقاومة والنضال الشعبى من فعل ما فعله بطلنا محمد مهران الذى ضحى ببصره راضيا رافضا ان يبوح بسر أو اسم من أسماء تشكيلات المقاومة، أو أن يوافق على أن يرسل للعالم رسائل ترحيب بالغزاة ويتطاول على الثورة والرئيس عبدالناصر. أعتز بخطاب كتبه لى المناضل و البطل محمد مهران يحكى فيه أدق تفاصيل واحدة من أبشع جرائم عدوان 1956 وكيف ساوموه على أن يتركوا له بصره أو ينقلوا القرنية من عين واحدة ليبصر بها ضابطاً من ضباطهم أصابته المقاومة مقابل ان يدلى بما لديه من معلومات فاختار أن يفقد بصره ثمنا غاليا وعزيزا لحفظ أسرار المقاومة ... ارفق بطلنا مهران الخطاب الذى أرسله لى بآخر صورة التقطت له فى 1956 وقبل ارتكاب جريمة اقتلاع عينيه بخمسة ايام .. هذه العيون السوداء الواسعة التى تطل كعيون النسر لفتى ربما لم يتجاوز السابعة عشرة قدمها فداء لمدينته ولمصر كلها وحيث عاش من يومها يضع نظارته السوداء ويرى الدنيا بعيون قلبه ومحبته ووطنيته وعيون زوجة أحبته وفعلت المستحيل لتعطيه عينا من عيونها يبصر بها. من تخونهم ضمائرهم ووطنيتهم ويحاولون التقليل والتشكيك فى هذه البطولات أدعوهم أن يحاولوا أن يشرفوا بلقاء البطل محمد مهران أطال الله فى عمره ليظل رمزا من أهم رموز معدن وأصالة أبناء بورسعيد ومصر كلها لعل ذاكرتهم الوطنية تسترد وعيها وضميرهم الوطنى يستيقظ ويرفضون أى محاولات آثمة للمساس بهذا التاريخ الذى كانت مقاومة وانتصار 1956 واحدة من أعظم حلقاته أو ان يسألوا ملكة انجلترا عن ابن عمها الضابط مورهاوس الذى شارك فى العدوان ، وكان من أعنف من واجهوا المقاومة فقام أعضاء التشكيل الرابع المكون من أحمد هلال وحسين عثمان ومحمد حمدالله وعلى زنجير ومحمد ابراهيم سليمان وطاهر مسعد بتدبير وتنفيذ خطة لاختطافه من وسط الحرس المشدد حوله وأدت مطاردة القوات المعتدية للفدائيين بحثا عنه حيث كانوا يريدون إرساله إلى القاهرة لاستبداله بالأسرى والمعتقلين إلى وفاته فى المخبأ الذى حاولت المقاومة ان تحافظ عليه حيا فيه وتوالت العمليات للتشكيلات العشرة للمقاومة والفدائيين حتى ادرك المعتدون أن استمرارهم فى بورسعيد مستحيل، ومن أهم عمليات المقاومة العملية التى قام بها البطل الراحل والعزيز السيد عسران لاغتيال جون ويليامز الذى كان مديرا لمخابرات قوات العدوان ، وقاد أعنف معارك الاعتداء على المقاومة وعلى سكان المدينة وكان السيد عسران لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره. يتقدم دعم وحماية الذاكرة الوطنية ما تقدمه الدولة ومؤسساتها الثقافية والتعليمية والشبابية والاعلامية والحزبية والأهلية لتاريخ نضالها خاصة النضال والمقاومة الشعبية واحتفاء بأبطالها وتكريم يجعلهم قدوة حية دائمة فى اعداد وتربية الاجيال ومكوناً أساسياً من مكونات وعيهم. أرجو أن نجعل الاحتفال بأعياد نصر بورسعيد فى 23 ديسمبر نموذجا للوفاء والتكريم الذى يليق بعظمة وابداع المقاومة التى قدمت دروسا فى الوطنية والكرامة والتضحية وأن نوفر لهم ولأبنائهم الأحياء ومن رحلوا أكرم وأفضل تيسيرات ومستويات الحياة. نقلا عن صحيفة الأهرام