«توقف عن تحويل الأغبياء إلى مشاهير».. شعار انتشر مؤخرا فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وأستراليا وأوروبا بعد أن تم استغلال تطبيقات الإنترنت و مواقع التواصل الاجتماعى وحسابات المشاهير لترويج « التفاهة » ونشر الشائعات.. والحقيقة أن التحذير القادم من وراء البحار والمحيطات يستدعى صورا من المؤكد أنها كثيرا ما استوقفتنا مرة لغرابتها واستفزتنا مرات لعدم لياقتها وخروجها عن الآداب العامة أو سخافتها وضحالة مضمونها. فالملاحظ أن نسبة لا يستهان بها فى بلادنا حولت تطبيقات التكنولوجيا الحديثة إلى وسيلة للنميمة وتغييب العقل وأحيانا الاتجار بالبشر تحت مسميات مختلفة!. ونظرة سريعة على حسابات مشاهير الإنترنت أو من يطلقون عليهم «اليوتيوبر» من يستخدمون اليوتيوب بكثافة - كفيلة بأن تكشف لنا عن أنها تشترك فى سمة واحدة، هى اعتمادها بشكل رئيسى على ما يمكن أن نطلق عليه باللهجة العامية «الاستهبال»!. فالوصفة السحرية المعتمدة لدى الغالبية العظمى منهم للوصول للشهرة وجلب الإعلانات وتحقيق عائد مادى تتلخص في:اقفز، ارقص، اصرخ، أصدر أصواتا غريبة، تكلم بكلام لا معنى له، خالف قيم المجتمع، استفز مشاعر الآخرين. بعدها تأكد أنك ستشتهر وتجد من يصفق لك، وستنهال عليك عروض الاستضافة فى وسائل الإعلام والمهرجانات، وقد تصبح نجما تليفزيونيا او سينمائيا، و«انت وشطارتك»! والحقيقة أن تداعيات تسييد هذا النوع من الإعلام سواء من حيث تأثيره على منظومة القيم المجتمعية وتشوه الذائقة الجمالية واستلاب عقل ووعى الأجيال القادمة، يطرح أكثر من علامة استفهام. هل خلقت تطبيقات التكنولوجيا الحديثة وتحديدا الإنترنت ثقافة جديدة؟ وهل تقع مسئولية تراجع الثقافة الإنسانية بكل فروعها لمصلحة صناعة « التفاهة » وتسطيح الوعى، على هذه التقنية التكنولوجية؟ يقسم أستاذ الإعلام فى جامعة «سان فرانسيسكو» «د. ديفيد سيلفار» ثقافة الإنترنت إلى 3 أقسام: شعبية، بدأت بتأسيس الصحف لمواقع على الإنترنت، وأكاديمية، بدأت بإنشاء المؤسسات العلمية مواقع للمهنيين والمتخصصين، وأخيرا ثقافة الانترنت متمثلة فى غرف النقاش، والعوالم الافتراضية، وشبكات التواصل الاجتماعى. وفى حين اعتبرت بعض الدراسات الإنترنت وسيلة لإقامة مجتمعات أكثر عدالة تتجاوز الاختلافات والانقسامات الداخلية، رأى فيها البعض الآخر أداة لتغييب الوعى وتسطيح الثقافة وتخريب الإبداع. فى هذا السياق يناقش «د. بول ديماجيو» أستاذ علم الاجتماع بجامعة « برنستون » ومدير مركز دراسات المؤسسات الاجتماعية هذا التأثير، فيقول: للإنترنت وجهان؛ إصلاحى يتمثل فى نشر وتداول معلومات وإتاحة فرص أكبر للتواصل والنقاش، وتخريبى من حيث تأثيره على طرق الإبداع التقليدية. وربطت عدة دراسات مصرية بين تأثر سمات الشخصية المصرية إيجابا وسلبا والتقنيات الحديثة (محمود عبد الرءوف كامل «أثر الاعلام فى البناء الثقافى والاجتماعى للمصريين»). وفى تقديرى أن الإنترنت ليست المعامل الوحيد فى معضلة « التفاهة » وأن تأثيرها مرتبط بدرجة الوعى الإنسانى ونوع النشاط الثقافى. فالإنترنت وإن أسهمت فى نقل المسرح يات والحفلات الموسيقية والباليه، والقيام بجولات افتراضية فى المتاحف عبر المواقع - كمبادرة وزارة الثقافة فى أثناء جائحة كورونا- لم تنه ثقافة ارتياد المسرح والمتاحف، ولا حالة التفاعل المباشر فى أثناء المشاهدة الحية فى المسرح أو المتحف. كذلك لم تفلح التكنولوجيا أن تقدم روبوت- مهما تبلغ دقة برمجته- يصلح بديلا لإحساس ممثل أو لإبداع العقل البشرى. ورغم أن التقنيات الحديثة والإنترنت قدمتا اختيارات وبدائل لصناعة الصحف الورقية والسينما والتليفزيون لضمان استمرارها، إلا أنها تظل ادوات تحتاج للوعى البشرى، أو كما قالت نائبة مدير الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين، مارينا ووكر جيفارا: «الذكاء الاصطناعى لن يحل مكان الصحفي». وفى هذا السياق يتضح أن ثقافة الإنترنت ليست نتاج الكمبيوتر ولكنها توظفه، وأن تطبيقات التكنولوجيا والإنترنت تحديدا مجرد أدوات، نحن من نختار كيفية استخدامها للتعلم والمعرفة واستعادة الوعى أوتغييبه. وبالتالى أظن أن صناعة « التفاهة » وتحويل الأغبياء إلى مشاهير، وإن سهلت الإنترنت انتشارهما، مسئولية مجتمعية علينا جميعا أن نتحملها لإيقاف دورة صناعة « التفاهة » وإفشاء الغباء. نقلا عن صحيفة الأهرام