قابضا بأسنانه باسترخاء على مبسم شيشته، ممسكًا بيده موبايله، متظاهرًا بأنه مستغرق فى شاشته.. استرَقّ النظر إلى صاحبه متابعًا خلجات عينيه، ومصمصات شفتيه، وهِزّات رأسه التى وَشَتْ باستيائه الشديد. مدّ كفّه فرَبّتَ على كتف الصاحب: مالك يا عَمّ؟ كان صاحبه غاضبًا جدًا فصرخ كأنما كان يتوقع السؤال: بذمتّك هىَّ دى مصر؟.. أرأيت ماذا حدث بالجونة؟.. هل لاحظت كيف تركوا مشكلات البلد كلها وراحوا يتابعون فساتين النساء؟ يا سبحان الله.. أهانت علينا أنفسنا إلى هذا الحد؟ ابتسم هو مُشفقًا وهمس: هوِّن عليك يا أخى.. إنه مهرجان للفن .. فماذا تتوقع أن يكون مهرجان للفن ؟.. هم فنانون وفنانات.. عادى جدًا ما جرى وتشهده مهرجانات السينما بكل الدنيا. عاد الصاحب إلى صياحه من جديد: لا يا أفندينا لا مؤاخذة.. آسف.. نساء الدنيا كلها كوم ونساء مصر كوم ثانٍ.. نحن شىء آخر.. ولا يمكن اختزال حرائرنا فى فستان هذه الممثلة أو فى تسريحة شعر تلك.. نعم نساؤنا غير نساء العالمين!. عند هذا الحد لم يتمالك هو نفسه فأطلق صهلولة عارمة أضحكت المقهى كله.. ثم من بين دموع الضحك تمتم: لماذا إن شاء الله يا عم المحترم.. هل نساؤنا من مهلبية وألمظية ونساؤهم من فلفل أسود وكَمّون؟ ما المشكلة فى أن تخرج فنانة تتباهى بفستانها الذى كلّفته الشىء الفُلانى؟.. يا أستاذ لا تُبحْبِحها هكذا... أخرسته نظرة كالنار من عينىّ صاحبه فصَمَتَ كقبر مهجور. صرخ الصاحب مُدمدِمًا: عفوًا أنا لا أفهم بالضبط قراءتك لتلك القضية الواضحة وضوح الشمس.. فهلّا تفضّلتَ فشرحت لى وجهة نظرك؟ ابتلع هو لعابه بصعوبة، نظر إلى أعلى ثم إلى أسفل، فبدا كأنه يفكر، ثم نطق: اسمع.. إن العايط فى الفايت كالطبيخ البايت.. ولقد قتلنا، أنا وأنت، هذه المسألة بحثا من قبل. إن الأمر بالنسبة لى يتلخص فى بنود ثلاثة؛ أولها، أن الفن حرية فإن أتيتَ سيادتك فنزعت من الفنان حريته فكأنك حبست الهواء عن رئتيه. ولأن الحرية لا تتجزّأ فلا يمكن إطلاق الحرية للفنان وهو يمارس فنه ثم نفرض عليه أن يرتدى كذا ولا يرتدى كذا. الحقيقة لا تتجزّأ يا سيد الناس!. هَبَّ الصاحب كإعصار عاتٍ وأمسك بتلابيب صاحبه زاعقا: إذن فأنت تريدها سبهللة ومجونا وعربدة.. صَحْ؟ أجاب هو بسرعة: أبدًا والذى خلقك..اجلس يا بنى آدم وحاول أن تفهم.. أنا أحدثك عن الحرية وليس قِلّة الأدب. إن الفن التزام.. ولكل مجتمع ضوابطه وعلى ممارس الفنون الالتزام بهذه الضوابط لكن ليس إلى حد خنْقِهِ وكتم أنفاسه وتطليع روحه. إنهُنَّ يُرِدْنَ ارتداء الفساتين على أحدث موضة.. ماشى لا مانع.. حَقَّهُنَّ.. لكن ليضعن فى اعتبارهن أن للمجتمع ضوابطه. همس الصاحب: تقصد أن خير الأمور الوسط؟.. ابتسم هو: نعم .. بالضبط!. هدأ الصاحب فقال: وما البند الثانى يا فالح.. هيّا اتحفنى. ردّ هو: إن الفن عندى هو الصراحة والصدق والبَوْح والوضوح.. إنه الكشف. صرخ الصديق: تقصد كشف الجسد.. يعنى التعرّى.. صح؟ عاجله هو: ليس بالمعنى السيئ الذى فى رأسك المريض هذا إنما قصدتُ أن الكشف (وليس العِرْى) يجب أن يتم فى حدود الأصول التى يقتضيها الفن وإلّا تحوّل الأمر إلى ماخور أو مباءة. وانظر إن شئت إلى النحت فى عهد الفراعنة وعند الإغريق وأيام عصر النهضة.. كانت هناك ضوابط صارمة يا سيدنا ولم يكن مسموحا لكل من هبَّ ودبَّ أن ينحت ما يشاء. أراد الصاحب أن يُعلّق فأسكته وأردف: يا عزيزى..إن الفن فى مِلّتى واعتقادى هو الكشف الذى هو روح الفن.. وليس معقولا أن تطلب من فنان أن يمتعك بفنه ثم تفرض عليه أن يكذب أو يدلس فى إحساسه الفنى.. وهنا دَعْنى أسألك: أمعقول أن تقبل من ممثلة ما أن ترتدى رداء الشخصية التى تؤديها (حتى لو كان الرداء مكشوفا حبتين).. بل تصفق لها إن هى مثّلت الدور ببراعة.. ثم إن هى ارتدت بعد ذلك فستانا مريحا بعض الشىء (أقول مريحا وليس عاريا كى لا تفهمنى خطأ) تنهال عليها بالاتهامات؟.. سامحنى هذا ازدواج وتلفيق لا أقبله منك.. ولا أرتضيه لك. زعق الصاحب: ومن قال لك إننى سأرى تمثيلها أصلا.. أنا إنسان رَبّاه أبواه يا أستاذ. عندئذٍ ردّ هو: تلك هى المسألة.. وهذا هو البند الثالث فى شرحى القضية لك. إن السؤال الحقيق ليس فستان هذه أو تلك.. فمصر كما قلتَ أنت لا تُختزل فى فستان.. إنما القضية هى: هل تقبل الفن عموما أم لا تقبله؟.. فَزَّ الصاحب فطلب صبى القهوة وصرخ فيه: الحساب اليوم عند هذا الباشا العِلمانى.. حدّ الله بينى وبينه!. نقلا عن صحيفة الأهرام