د. هالة مصطفى جاء الحادث الإرهابى بذبح مدرس التاريخ الفرنسى على يد متطرف منتمٍ لتنظيم داعش يُدعى عبدالله أنذوروف، لا يزيد عمره على 18 عاما، وهو شيشانى من أصل روسى ويحمل صفة لاجئ، على خلفية عرض الأول رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول على طلابه بغرض تدريبهم على طرق التفكير النقدى واحترام حرية التعبير وفق وجهة نظره ومعتقداته الثقافية التي نشأ عليها، ليضيف أزمة جديدة فى السجل الشديد التعقيد لمسلمى أوروبا، ستُلقى ولا شك بظلالها الكثيفة على علاقة الغرب بالإسلام والمسلمين عموما، وستُغذى كل عوامل الصدام الكامنة بين الجانبين، والمعروف أن هذه الرسوم سبق نشرها فى مجلة شارلى إبدو الساخرة منذ خمس سنوات وتعرضت بدورها لهجوم عنيف من متطرفين دواعش أيضا، قتلوا فيه 12 شخصا من فريق عملها بنفس الطريقة الوحشية المجافية للمبادئ الإنسانية ولتعاليم كل الأديان السماوية . وقد سارعت مؤسسة الأزهر بإصدار بيان إدانة للحادث ووصفته بالجريمة النكراء، داعية فى الوقت نفسه لسن تشريع دولى يحث على عدم المساس بجميع الأديان توخيا للتعايش السلمى بينها، ودرءًا لمخاطر الدخول فى حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد، تُراكم من العداء المتبادل الذى يصعب التنبؤ بنتائجه. وقع هذا الحادث الإرهابى بعد أيام قليلة من تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون حول التطرف الإسلامى والتى أثارت جدلا واسعا بين مؤيد ومعارض لها، باعتبارها تمييزا ضد المسلمين، لكن مضمون تلك التصريحات يستند على وجود تيارات مختلفة لتفسير الإسلام تبعا للمذاهب الفقهية، وأن الغالب عليها -كما يرى الأمر فى بلاده- هو النهج الجهادى العنيف الذى يسعى لنفى الآخر، وليس التيار التنويرى والمعتدل، لذا استخدم مصطلح الانفصالية الإسلامية للتعبير عن الانعزالية التى يعيش فيها مسلمو فرنسا وسعيهم للانقضاض على قيم الجمهورية العلمانية والدولة المدنية، لإقامة نظام مواز يهدف لتغيير طبيعة المجتمع ويُجبر مواطنيه على التخلى عن مبادئهم الأصيلة التى رسختها ثورتهم فى الحرية والإخاء والمساواة من قرون طويلة مضت، بل ويستغلون الطابع الليبرالى فى الثقافة الغربية لتقويضها من داخلها بغية تمرير مشروعهم السياسى، مؤكدا فى النهاية اختياره المواجهة بديلا عن الاحتواء أومحاولات الإدماج التى ثبت فشلها. هذه التصريحات التى تأتى من صاحب أعلى سلطة فى البلاد لا يمكن الاستهانة بتداعياتها وآثارها مستقبلا، مثلما لا يصح أخذها على أنها مجرد نوع من المزايدة الانتخابية مع تيار اليمين الذى ترتفع أسهمه على المستوى الأوروبى كله، فمن قبل ماكرون تبنى سلفه ساركوزى خطابا مشابها وربما أكثر حدة فى مفرداته بعد خروجه من المنصب، مثلما أعلن الأول إجراءات عملية يعتزم تطبيقها (بدأ فيها بالفعل) ومنها استحداث شرط لأى جمعية إسلامية ترغب فى استصدار ترخيص من الدولة، أن توقع على ما أطلق عليه ميثاق العلمانية وفرض إشراف كامل على المدارس الدينية الخاصة وقصر التعليم الإلزامى على المدارس العامة للقضاء على التعليم المنزلى السائد حاليا فى بعض أوساط الجالية المسلمة، مع تشديد الرقابة على المساجد والجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بمصادر تمويلها، ومنع الأئمة المعارين من الخارج، فضلا عن مراجعة قانون التجنيس والإقامة، وسن تشريعات جديدة تخدم هذه الأغراض للحد من انتشار الأفكار التكفيرية التى تتسلل عبر هذه الوسائل. وبغض النظر عن المسائل التفصيلية، فإن الموضوع برمته يثير عددا من القضايا الشائكة تستوجب معالجتها بقدر من الصراحة والوضوح، وفى مقدمتها: أولا، إن جرائم الإرهاب بلا استثناء التى تقع فى أى بقعة من العالم، لا يمكن تبريرها بحال من الأحوال تحت أى ذريعة، فليس هناك أسوأ أو أكثر بشاعة من سلب الحق فى الحياة، صحيح أن مشاعر الغضب والعاطفة الدينية يجب احترامها، ولكن هناك طرقا عديدة قانونية وسلمية للتعبير عنها، بعيدا تماما عن العنف الذى ألصق تلك التهمة بالمسلمين وحدهم، لأنها تُرتكب باسم حماية العقيدة وتنفيذا لفتاوى يتم تداولها علنا وعلى أوسع نطاق ممكن، وبالتالى فيجب أن تكون الرسالة التى تبعثها كل الجهات المسئولة فى الدول والمجتمعات الإسلامية واضحة لا لبس فيها. ثانيا، ما يتعلق بالتزايد المطرد لأعداد المسلمين فى أوروبا والذى يُقدر بما يقرب من 52 مليون مسلم (8 ملايين فى فرنسا وحدها) ومتوقع لها أن تتضاعف خلال ال20 سنة المقبلة، وربما تتجاوز تلك النسبة بحكم التدفق الهائل للهجرة وطلبات اللجوء السياسى من الشرق إلى الغرب فى السنوات الأخيرة، هروبا من الحروب والصراعات الأهلية أو بحثا عن فرص للعمل ومستوى أفضل للمعيشة، وقد يُعد المؤشر الرقمى فى نظر البعض عنصر قوة، ولكنه سلاح ذو حدين، حيث يُعلى من مخاوف الغرب المترتبة على وجودهم على أراضيه وعدم اندماجهم مجتمعيا وثقافيا فى الدول المضيفة، بعبارة أخرى سيصبحون من هذه الزاوية خطرا على الحضارة الغربية، ولن يكون مستغربا أن يأتى اليوم الذى تُجبرهم فيه تلك الدول (أو العدد الأكبر منهم) على العودة إلى بلدانهم الأصلية، خاصة أن المشكلة تزداد حدة مع الأجيال الجديدة الذين ينخرطون فى الجماعات الإرهابية ، بل ويتخذون من أوروبا محطة للالتحاق بتنظيماتها. ثالثا، إن كل الجهود التى تبذلها المؤسسات الدينية الإسلامية لحصار ظاهرة الإسلاموفوبيا ستضيع هباء مادامت استمرت تلك الممارسات، فالأمر هنا لا يتعلق بإفهام الغرب للطبيعة السمحة أوالوسطية للإسلام، وإنما الفيصل سيظل دائما فى كيفية التعايش مع الآخر المختلف، فمن العبث تصور أن أوروبا ستُغير من منظوماتها القيمية التى لاسقف تقريبا للحرية فيها تحت أى ضغوط، ومن ثم ستتسع الفجوة. رابعا، المسئولية الغربية عن دعم جماعات الإسلام السياسى فى مراحل تاريخية مختلفة، حدث ذلك فى العشرينيات من القرن الماضى بدعم بريطانيا لجماعة الإخوان المسلمين، ثم فى أثناء الحرب الباردة باستخدام التنظيمات الجهادية فى مواجهة الاتحاد السوفيتى وقتئذ ابتداء من الحرب الأفغانية أواخر السبعينيات، وما تلاها بعد ذلك من حروب مشابهة بالوكالة فى مناطق أخرى، إلى توظيفها كجماعات سنية فى مواجهة مثيلاتها الشيعية المدعومة من طهران، وأخيرا اعتبارها قاطرة للتغيير والتحول الديمقراطى ضد الأنظمة الاستبدادية فى الشرق الأوسط، أى كقوة معارضة وبديلة لهذه الأنظمة، والرهان على تصنيفها بين معتدلة وعنيفة، رغم أن المرجعية الدينية والأيديولوجية هى واحدة ومشتركة، كذلك التهاون فى التصدى المبكر للمشاريع الإقليمية التوسعية التى تتخفى وراء ستار الإسلام سواء تبنتها إيران أو تركيا، ولابد هنا من الاعتراف بفشل هذه الإستراتيجية، وأن الكف عن خلط الدين بالسياسة يبقى المُنقذ الوحيد من هذه الدوام. * نقلًا عن صحيفة الأهرام