د. علي الدين هلال احتفل العالم بالأمس - 24 أكتوبر 2020 - بالذكرى الخامسة والسبعين لولادة الأمم المُتحدة. ففي هذا اليوم من عام 1945، تم استكمال النصاب اللازم لتصديقات المجالس التشريعية للدول المؤسسة للمنظمة، وتم إعلانها بصفة رسمية، وسُمي هذا اليوم ب « يوم الأمم المُتحدة ». وفي هذه المُناسبة، يتذكر المرء دكتور بطرس بطرس غالي الذي شغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة خلال الفترة من 1992-1996. وكان أول عربي وإفريقي يشغل هذا المنصب. انتُخب بطرس غالي لهذا المنصب السامي بسبب خبراته المتميزة والفريدة، فقد جمع بين أستاذية العلم في مجال التنظيم الدولي الذي علمه لثلاثة عقود، وحرفية الدبلوماسي من خلال عمله وزيرًا للدولة ونائبًا لرئيس الوزراء للشئون الخارجية في مصر. تولى الرجل منصبه في أوقات حرجة بالغة التعقيد عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، والسيولة التي أصابت العلاقات الدولية، والحديث عن نظام دولي جديد. ومن ثم كان عليه أن يُطور أداء المنظمة الدولية وأنشطتها بما يتناسب مع هذه التغيرات. في أول خطاب له بعد توليه منصبه، حدد المفاهيم الأساسية التي مثلت محور نشاطه وهي: السلام، والتنمية، والديمقراطية. واعتبرها منظومة متكاملة ومترابطة. وفي 31 يناير 1992، شارك في اجتماع لقادة الدول الأعضاء في مجلس الأمن ، وكانت المرة الأولى في تاريخ المنظمة التي ينعقد فيها مثل هذا الاجتماع. وأسفر الاجتماع عن تكليفه بإعداد تقرير يتضمن توصياته بشأن سبل تعزيز قدرة الأممالمتحدة على القيام بمهامها في حفظ الأمن والسلم الدولي. وبدا ذلك مؤشر إيجابي على رغبة هؤلاء القادة في أن يكون للأمم المتحدة دور في تشكيل عالم ما بعد الحرب الباردة. وخاطبهم غالي بأن الأمر يتطلب المزاوجة بين الأقوال والأفعال حتى يمكن إعادة تأسيس الحياة الدولية على أسس قوية. وانطلاقا من ذلك، قدم بطرس غالي ثلاث وثائق رئيسية هي: أجندة من أجل السلام في يونيو 1992، وأجندة من أجل التنمية في مايو 1994،و أجندة من أجل الديمقراطية في ديسمبر 1996. تضمنت الوثيقة الأولى مفهومًا متكاملًا عن تسوية الصراعات في العالم وبناء وحفظ السلام وتعزيزه. وربط غالي بين الصراعات السياسية وجذورها الاجتماعية والاقتصادية، مُنبها إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالحلول السياسية، ومعالجة المصادر الأعمق للصراعات. وميز بين الدبلوماسية الوقائية التي تسعى إلى منع قيام الصراع وتجنب الحرب، وصنع السلام، أي الإجراءات الكفيلة بالتوفيق بين الأطراف المتنازعة ووقف الحرب، وحفظ السلام وهي تلك الخاصة بإرسال قوات الأممالمتحدة لمنع تجدد النزاعات، وبناء السلام وهي الإجراءات الخاصة بتثبيت السلام وتوطيد أركانه في مراحل ما بعد الصراع. وأكدت الوثيقة الثانية أن التنمية هي طريق تجنب الحرب وتحقيق الاستقرار والسلم الداخلي. لم يعتبر التنمية مسألة اقتصادية وحسب، بل ربطها بجوانب أمنية وبيئية واجتماعية. أما الوثيقة الثالثة الخاصة بالديمقراطية، فقد وظف فيها معارفه الاكاديمية لإبراز أهمية الديمقراطية وعلاقتها بالتنمية والسلام، مشيرا إلى أن الديمقراطية ليست صيغة محددة أو شكلا تنظيميا واحدا، يمكن فرضه على كل مجتمعات العالم. وقام بطرس غالي بإدخال تعديلات مؤسسية لبعث الحيوية في أجهزة الأممالمتحدة وتفعيل أنشطتها. منها، تدشين حوارات عالمية حول القضايا التي تواجه البشرية، وتؤثر على مستقبلها من خلال مؤتمرات كبرى، تشارك فيها وفود حكومية رسمية وأُخرى غير حكومية من المُجتمع المدني، ناقشت قضايا البيئة، والتنمية الاجتماعية، والمرأة، والسكان، وحقوق الإنسان. وحرص غالي في هذه المؤتمرات على أن يُبرز صوت الفقراء والضعفاء من دول العالم، وأن يركز على قضايا الجنوب والعالم الثالث. وكان من شأن هذه الحوارات أن أطلقت خيال المفكرين من كل البقاع حول مُستقبل العالم، ووضعت الأساس لما تطور بعد ذلك في شكل أجندة 2030 للتنمية المستديمة. وخلال فترة ولايته، أشرف على الوصول إلى تسويات للصراعات وعملية بناء السلام في كمبوديا، والسلفادور وموزمبيق والجابون. وتابع إنهاء نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، بينما فشلت جهوده في يوغوسلافيا وأنجولا والصومال ورواندا. امتلك بطرس غالي القدرة على المراجعة والاعتراف بالخطأ. فذكر أنه عندما تولى منصبه اعتقد أن الأممالمتحدة يمكن أن يكون لها دور في إعادة تشكيل عالم ما بعد الحرب الباردة. وأن عليها الدعوة لسياسات اجتماعية عالمية تهدف إلى تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم، وأن سياسات ترويج الديمقراطية التي تبنتها الدول الغربية لا جدوى منها إذا لم تتحقق ديمقراطية على مستوى العلاقات والتنظيمات الدولية. واعترف فيما بعد بخطأ هذا الاعتقاد تمامًا وأن ما حدث فعلا هو ظهور دولة عظمى وحيدة هدفت إلى السيطرة على العالم واستخدام الأممالمتحدة كأداة لتحقيق أهدافها. لم يكن بطرس غالي دبلوماسيًا تقليديًا ولم يكن من عادته القبول بالأمر الواقع وعدم التغيير، بل سعى دومًا للتطوير والتجديد، وكان لديه شعور عميق بالثقة بالذات، والحرص على الاستقلال في الرأي، وتحقيق المصلحة العامة. وبسبب ذلك، اعترضت الولاياتالمتحدة على تجديد ولايته كأمين عام للأمم المتحدة. وجدير بالذكر، أنها اعترضت عليه من قبل عندما ترشح مفوضًا ساميًا لشئون اللاجئين، ودعمت المرشح السويسري، ثم اعترضت على تجديد ولايته في الأممالمتحدة بالمخالفة لآراء جميع أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر. وكان موقفها هذا مثالًا لغرور القوة وحماقتها. ومع ذلك، ظل بطرس غالي حتى نهاية حياته مؤمنًا بدور الأممالمتحدة، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها، وأن ذلك يتطلب إجراء إصلاحات عميقة في نظامها، وأن ظهور قوى كبرى جديدة والتحول إلى عالم متعدد الأقطاب سوف يساعد على تحقيق ذلك.