د. عبد المنعم سعيد كنت من الذين قدر لهم حضور اللقاء فى الأسبوع الماضى مع دولة رئيس مجلس الوزراء د.مصطفى مدبولى فى كفر سعد- قليوبية بخصوص قضية العشوائيات فى مصر. كان اختيار المكان موفقا، فالرحلة من القاهرة إلى المكان فيها ما يكفى لكى يرى المشاركون، ومعظمهم من رجال الإعلام والصحافة، المدى الذى وصلت إليه جائحة العشوائية فى البلاد بعد أن توقف الطريق الزراعى من القاهرة إلى الإسكندرية عن كونه طريقا زراعيا. خرج الفلاحون المصريون من أراضيهم لكى يقيموا سكنا آخر، ربما بحثا عن حياة مدنية أخرى غير تلك التى تعودوا عليها، أو لزواج الولد أو البنت. لم يكن الأمر كما ورد إلى مسامع جيلنا فى صباه أن عواد باع أرضه من أجل غانية عاد بعدها خاسرا كل شيء، أو أنها كما كانت فى الثمانينيات من القرن الماضى تجريفا للأرض الزراعية وإخلائها من طبقتها الخصبة لكى يتم حرقها وتصير قوالب من الطوب الأحمر اللازم للبناء. بات الأمر جديدا بالمرة وهو الانتقال من الحالة الزراعية، إلى حالة نصف حضرية، فيها التكدس السابق، والالتصاق بالأهل والعشيرة؛ ونوع ما من انتزاع حق من حقوق المدنية التى يكون فيها الماء يأتى من الصنابير، والضوء معلق بالكهرباء فى سقف البيوت. كان هناك أمر آخر يدفع فى اتجاه العشوائية وهو أن ثمن الزراعة بات أقل كثيرا من ثمن بناء البيوت، بات الحلم الفلاحى أن يصير الفدان جزءا من كردون المدن وساعتها تقفز الأسعار إلى ما وراء سقوف عدة. فى كل الأحوال خسرت الأمة مرتين: الأولى عندما فقدت جزءا من القاعدة الزراعية للبلاد بكل ما يعنيه ذلك من آثار على الغذاء والثروة العامة، والثانية عندما تكونت تجمعات عمرانية يجتمع فيها الفقر مع الجهل والمرض، وأحيانا التطرف والجريمة. العشوائيات الريفية نشأت فى معظمها من الخلل الناجم عن الزيادة السكانية فى جانب؛ والخلل الآخر ما بين الريف والحضر فى العيش الكريم، فمهما كان حال العشوائيات فإنها أرقى حالا من بيوت فقراء الأقاليم، أو هكذا يتصورون. نهايته كانت فى المشهد الذى شاهدناه فى الطريق إلى كفر سعد، أما بدايته فكانت عندما قامت الحكومة بتسعير المحاصيل الزراعية بأقل من أسعارها العالمية، فلم يتراكم لدى الفلاح من الثروة ما يجعله يقوم بتحديث بيته الريفي؛ وقبلها عندما جرى تفتيت الثروة الزراعية إلى الدرجة التى لم تعد فيها الملكية تحسب بالفدان والأبعدية، وإنما بالسهم والقيراط، أصبح الجميع فقراء. العشوائيات الحضرية جاءت من أنواع أخرى من الخلل، فالسكان لم يكن لديهم ملكية أرض حتى ولو لقيراط واحد كما هو الحال فى الريف، وإنما جاء الخلل من توقف البناء أصلا بعد قوانين الإيجارات المنزلية التى جعلت صيانة الثروة العقارية مستحيلة ومن ثم تراجعت أو أصيبت بداء العشوائية، ولم يعد هناك دافع لبناء جديد ومتحضر فى أحياء الطبقات الوسطي، أو حتى بالقرب منها. أصبح لدينا ما لم يعد ذائعا فى العالم كله، وهو أن ملكية المنزل هى السبيل الوحيد للتعامل مع السكن بعد المرور بمرحلة خلو الرجل التى قضت على الفوائض المتوافرة لدى الطبقة الوسطى سواء من الأعمال الإضافية أو السفر إلى خارج البلاد. أصبح الموضوع كله نوعا من إدارة الفقر داخل العشوائيات التى باتت حوائط حمراء للستر. معالجة الدولة للقضية بدأت بمنع امتدادها للمشروعات العملاقة للطرق الجديدة التى أنشئت خلال السنوات الخمس الماضية. كان ذلك قرارا ثوريا قضى على اللعاب السائل للمستفيدين من عشوائيات المدن عن طريق مساكن رخيصة نسبيا وغير مقيدة لا بكود البناء، ولا قواعد التخطيط المتعارف عليها من قبل الدولة. الخطوة الثانية كانت الدفع بأكثر من مليون وحدة سكنية جديدة إلى السوق العقاري، وجزءا غير قليل منها موجها لمحدودى الدخل والتعامل مع العشوائيات الخطرة بإنشاء أحياء جديدة مثل الأسمرات وما يماثلها، وهذه كانت تجربة غنية بالدروس التى يجب أن نتعلمها فى كيفية الانتقال من الحالة العشوائية إلى الحالة المدنية الحديثة. خطوات الحكومة الأخيرة تمثل مرحلة أخرى لفرض القانون واستعادته للهيبة التى يستحقها. ومع أهمية هذه الخطوة، فإن البناء عليها يقتضى التعامل مع العشوائيات سواء كانت ريفية أو حضرية باعتبارها أنواعا من رأس المال الميت الذى آن أوان إحيائه. ويقصد برأس المال الميت ذلك المال أو الأصل غير المستخدم أو الذى لا يستفاد منه، أو الذى لا يستخدم بحكمه لتعظيم مكاسبه والعائد منه. المناطق العشوائية ريفا وحضرا هى نموذج لرأس المال الميت الذى لا يستخدم بكفاءة سواء كان ذلك بشرا أو أصولا. نقلا عن صحيفة الأهرام كيف يحدث ذلك، تلك هى المسألة كما يقال، وبدايتها المعلومات التفصيلية عن العشوائيات كلها والتى تفيد فى تحويل العشوائية من خصم على الطاقة القومية إلى إضافة لها. التطوير بشق الشوارع وبناء المدارس والمراكز الشبابية هو ضرورة منطقية ومستفادة من التجارب الجديدة التى لم تستقم إلا بعد هذا النوع من الإحياء للعشوائى و العشوائيات . ولكن ذلك لن يكون ممكنا دون التحول إلى وحدات إنتاجية والوسيلة هى التدريب والإعداد بالاستعانة بالجمعيات الأهلية التى بذلت جزءا مشكورا فى عون الفقراء، ولكنه آن الأوان لكى تعلمهم كيف يصيدون السمك بدلا من أكله فقط. فى تجارب التعامل مع عشوائيات الهند وبنجلاديش وما يماثلها أصبحت أحياء كاملة وحدات تصنيعية للغزل والنسيج وكثير من المنتجات الحرفية الأخرى. فى أوقات كثيرة قامت أجزاء من الطبقة الوسطى المصرية من أجل زيادة دخلها بتصنيع الكثير من منتجات الحلوى وغيرها لصالح المحلات العامة. ولدينا تجارب مثل أخميم وكرداسة قامت فيها وحدات إنتاجية للسجاد والمفروشات والتى كثير منها قابل للتصدير وتوليد العملات الأجنبية. القضية هنا سوف تكون حول كيف سيكون الإحياء وهذا استدعاء للخبرة الحالية والدراسات السابقة التى جعلت من مصر مثالا حيا على رأس المال الميت، ولكنه قابل للإحياء والتشغيل والتسويق، وكلها وظائف أخرى تتولد عندما تنمو منطقة كانت ميتة فى السابق.