بنى الإسلام شخصية المسلم وفق طريقة مثلى تمثل غاية الرقي والكمال في النظام الاجتماعي للإنسان من خلال تشريع الأسس المتينة و الآداب الحكيمة الضابطة لأمور حياته حتى يكون بناء شخصيته صلبًا وينعم المجتمع في ظلاله بالعمران والرحمة والسعادة والكرامة والفلاح. ولقد أقام النبي "صلى الله عليه وسلم" بناء شخصية المسلم على مرتكزات حضارية مثلت النسق الأعلى في المجتمعات الإنسانية، حيث اهتم في مكةالمكرمة بتحلية نفوس من آمن به وفق قيم العلم و العبادة والخير و السلام والمحبة و الصمود أمام التحديات التي تواجهه في ثبات وعزيمة وشرف. وفي الترتيب للهجرة أظهر "صلى الله عليه وسلم" سمة مهمة من سمات شخصية المسلم ، ودرَّبها على أن تكون مرتبة تسير وفق تخطيط محكم وقواعد متزنة ومنطلقات ثابتة، ولا تعرف التخبط أو العشوائية أو الارتجال؛ فالنجاح له أسباب ومواصفات ووسائل وأدوات، وقد أدار النبي "صلى الله عليه وسلم" تحديات قريش وما تحمله من مخاطر عالية وفق ما يعرف حاليا ب“إستراتيجية إدارة الأزمات”؛ فكانت الهجرة نصرًا حقيقيًّا أعاد صياغة الظروف المحيطة لصالحه "صلى الله عليه وسلم"، فأحاط موعد الهجرة بالسرية التامة، واستعان بأهل الخبرة والكفاءة في معرفة دروب الصحراء وطرقها، مع استخدام خطط حكيمة لعمليات الإمداد والتموين والاستطلاع فضلا عن ممارسة مختلف أنواع التعمية والتشويش على كافة مهمات الأفراد حوله. ثم توسع النبي "صلى الله عليه وسلم" في بناء شخصية الإنسان بعد وصوله إلى المدينةالمنورة، فجعل صناعة الإنسان مدخلا أصيلا في صناعة الحياة، فقد غيَّر "صلى الله عليه وسلم" القلوب والعقول، واهتم بثقافة الإنسان وعزز قدراته وملكاته الفعلية والإبداعية حتى ارتقت في مدارج النقاء والعفاف والرقي. كما اهتم ببناء شخصية المسلم وفق سمات التدين الصحيح من خلال تنظيم علاقة الإنسان بربه ببناء المسجد النبوي باعتباره مكان العبادة و العلم ، وكذا علاقة الإنسان بأخيه المسلم فشرع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لتظل مصباح هدى للمجتمعات والأوطان في سبيل بناء نهضتها وحضارتها وصناعة شخصية إيجابية لأفرادها، وفى ذلك قرر القرآن الكريم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]. وفى نفس السياق رسم أطر العلاقة مع أخيه الإنسان المختلف معه في الدين والعقيدة كما هو مقرر في بنود “وثيقة المدينة” بما اشتملت عليه من أمور تنظيمية لمهام الدولة وواجباتها تجاه مواطنيها مع صياغة منضبطة شاملة ودقيقة لا تدع مجالًا للاختلاف حول مفاهيمها ومجالات تطبيقها. وهى قيم نبيلة وخصال حميدة تؤكد أن شخصية المسلم تحترم الدولة وتؤمن بضرورة بنائها وتسعى إلى العمران والتعايش السلمى واحترام الآخر، فضلا عن اتباع المسالك الحكيمة في التغيير؛ حيث حافظ النبي "صلى الله عليه وسلم" في بناء دولة المدينةالمنورة على العرب من الهزات الاجتماعية والسياسية العاصفة؛ من خلال نقلهم رويدًا من نظامهم السياسى والاجتماعى الذى ورثوه عن آبائهم إلى نظام سياسى واجتماعى انصهرت في بوتقته سمات القبلية ومظاهر الجاهلية، وحلَّت محلهما الوحدة الفكرية والتماسك الاجتماعي، ومن ثَمَّ سادت الألفة والمودة في المجتمع برغم اختلاف فئاته وتباين معتقداته، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا)[آل عمران: 103]. وهذه الدروس الجليلة تتجدد عامًا بعد عام مع تعاقب ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، التى لم تكن مجرد انتقال بالجسد من مكان إلى آخر، وإنما كانت بناءً حقيقيًّا للإنسان وصناعة عملية للحياة والعمران، فما أشد حاجة الأمة في هذا العصر إلى استدامة ذكراها العطرة والاستفادة مما كان فيها من الدروس النافعة والأخلاق النبيلة والقيم السمحة؛ فضلا عن أن تكون ذكراها من خير أيامها. * نقلًا عن صحيفة الأهرام