لو تأمل الإسرائيليون، وخرجوا من الأحلام الوردية أو الوقتية التي لا تصمد للزمن، وأمعنوا النظر في واقع الحياة، ونواميس الكون، ودروس التاريخ ومرآة الزمن، لأدركوا أنهم لن ينعموا بالأمان، ما دام الفلسطينيون يعانون الغبن والظلم واليأس في الإنصاف، حتي وإن خضعوا لما يفرض عليهم جبرًا، فالجبر لا يخلص المجبر من اليأس، بل يزيد شعوره به مقرونًا بثورة ظاهرة أو دفينة من الشعور بالظلم. هذا الشعور المتراكب لا يستوي معه أمان ولا سلام! لا في موقع أو موطن الظلم، ولا في أي بقعة ينتقل إليها المظاليم المسحوقون محملين بعناقيد الغضب والاعتراض المكتوم الذي مآله إلي التفجر، ليس فقط من جرائم إسرائيل وتغولها علي فلسطين شعبًا وأرضًا، وإنما من العالم الذي وقف متفرجًا أو مباركًا لهذه الجريمة العالمية الكبري!. لن يتحقق الأمن لإسرائيل بترسانتها النووية ولا بقواتها العسكرية ولا بحروب الإبادة والتهجير ولا بغارات النسف والتدمير ولا بهدم الأبنية أو إقامة المستوطنات أو بناء الجدار العازل ولا بمحاصرة القدس ومصادرة المسجد الأقصي والعبث بأساساته.. ولن يتحقق لها الأمن بدعم الولاياتالمتحدة ومن يجري مجراها، ولا بالخلاف والتناحر بين فتح وحماس، ولا بتشرذم الشتات الفلسطيني، فذلك كله مهما علا واشتد وثقلت وطأته، ومهما بث من إحباط وربما يأس، لن يحقق الأمن لإسرائيل، بل علي العكس!. هذا الوضع المستفز قد يوئس، ولكنه لا يميت، ولا يعقم ما يعتمل في الأرحام من غضب وسخط تتوارثه الأجيال، وتتنامي به عناقيد الغضب.. موازين المصالح الدولية ليست أبدية، وما يحكمها اليوم قد يتغير باكر بل ولا بد أن يتغيير، فهذه سنن الحياة ودورات التاريخ، وبقاء الأنظمة العربية التي انفصلت عن قواعدها وباعت القضية، هو بقاء موقوت مهما طال، ومن المحال أن يبني أمانا علي أوضاع متغيرة أو قابلة للتغير أو التغيير.. وإسرائيل لا تحتمل ما قد يطرأ عليها من تغير، بينما الشعب الفلسطيني يملك الزمن والإيمان بالحق والمصير، وتتوالد أجياله حاملة بذور الغضب مع مرارة اليأس والشعور بالظلم.. وهذا هو الحساب الغائب عن المنظور الإسرائيلي الذي يغره ما تمتلكه اسرائيل اليوم من أوضاع محلية ودولية فضلا عن ترسانتها النووية وفيالقها العسكرية وقواعدها الصاروخية والجوية وقنابلها العنقودية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل!. ربما قامت السياسة الإسرائيلية علي أن الإحساس بالخطر هو جامع اليهود من بقاع العالم، وحافز التماسك الإسرائيلي والواقي من تفرق اليهود في الداخل والخارج.. ولكن هذا النظر قصير، وامتلاك استمرار تأثيره بالغ الصعوبة ومعرض للارتداد إلي نقيضه وسط حسابات بالغة التعقيد جعل بعضها يتسرب وتتداعي تأثيراته علي غير حسابات المخطط الإسرائيلي !. ما لا يدركه الصلف الإسرائيلي أن العنف يولد العنف، وأن تراخي رد الفعل لا يعني أن قانون رد الفعل معطّل.. أو أنه انسحاب أبدي أمام الظلم والقهر.. مآسي ومذابح التاريخ وأعمال العنف والقتل والإبادة، تُنَمّي في المقابل عوامل السخط والمقاومة.. وكلما طال انطواء القلوب علي الجراح تنامي الغضب وتوالد العداء وقويت واشتدت أسبابه، واستمدت مشروعية أمام النفس والغير في المقاومة والرد.. ليس معني خلل الموازين الدولية أن العالم لا يري ولا يدرك ولا يفهم، أو أن الأمل فيه معدوم.. من يتأمل في تقرير القاضي جولد ستون الذي أدان إسرائيل في حربها الغشوم علي قطاع غزة بالعديد من الجرائم ضد الإنسانية.. من يتأمل هذا التقرير وما ورد فيه خلافًا لما تريده إسرائيل وأشياعها. يعرف أن تجاهل العالم ظاهري، يفصح عن تسليم ضمني بأن ما يحدث غير عادل ويولد ما يستحيل معه علي إسرائيل أن تنال الأمن.. لا يتحقق الأمن في أرض مخضبة بدماء شعب بأكمله، وتحت ثراها أجداث الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال.. وعلي سطحها آثار النسف والتدمير والتجريف وأعمال استيطان مستفزة، وتطاول علي قدسية المسجد الأقصي والمقدسات الإسلامية .. العمليات الانتحارية ما هي إلاّ رد فعل في لحظة يأس من إحساس شعب بالقهر والتآمر علي حياته ومصيره.. فإذا عزّ علي إسرائيل أن تدرك ذلك في حالة غطرسة القوة التي تعيشها، فإن الشعب الفلسطيني خاصة، والعربي بعامة يدرك أن دوام هذا الحال من المحال، وأن الجلد تعقبه انتفاضة حياة، طالما استطعنا لملمة إرادتنا وعزمنا من براثن الأشجان والأحزان، وجاوزنا وهدة الحاضر ومظالمه. تستمتع الولاياتالمتحدة بقوة كاسحة، اقتصادية وعسكرية، مكنت لها في العالم، ومكنت لساساتها علي التعاقب من دعم التغول الإسرائيلي علي فلسطين وشعبها، ومما لا شك فيه أنه بعيدٌ الآن عن فكر الساسة الأمريكيين أن دولتهم يمكن أن تزول، أو أن تحكمهم في مصائر العالم يمكن أن يتصدع، ولكن ها هو نمو التنين الصيني قد غدا ينذر بتغيير موازين القوي، وبدأ القلق من توسعه الاقتصادي يقلق السياسة الأمريكية ويهدد اقتصادها. والتنين الصيني وإن بدا اليوم حالة فريدة، إلاَّ أنه قابل للتعدد اليابان التي خرجت جريحة مكسورة من الحرب العالمية الثانية، صارت قوة يُعمل لها حساب يتزايد مع الأيام، وألمانيا الموحدة استردت عافيتها وتتصاعد قوتها بخطي ثابتة، والدنيا تتغير وإن طال الزمن، ولا توجد حضارة في التاريخ إلاَّ وتعرضت للتآكل والزوال. وأسرع من الزوال أن تتغير التوجهات الأمريكية حين تدفع ثمن انحيازها لإسرائيل من مصالحها لدي الأقطار العربية وما قد يطرأ فيها من تيقظ يعترض خضوع البعض لما تفرضه الولاياتالمتحدة من سيطرة! ما تكفله الولاياتالمتحدة لإسرائيل مهدد مهما طال الزمن!. وربما يبدو بعيدًا أن يدرك الإسرائيليون ذلك مع غطرسة القوة، ولكن يفوت هذه الغطرسة أن الزمان حُوّلٌ قُلَّب، لم تعش قوة إلاَّ لتذوي، ولم ترتفع حضارة إلاَّ لتبيد. وكم من حضارات ازدهت ثم بادت، أما السلام فلا يعيش ولا يحيا إلاَّ في جو من العدل والإنصاف، وحين يداس العدل بالأقدام وبالسلاح، فلن يكون هناك أمانٌ ولا سلام!. نقلا عن صحيفة الأهرام