رحل عن عالمنا صباح اليوم الإثنين، المستعرب الصيني صاعد تشونغ جيكون في بكين، عن عمر ناهز 82 عاما، والذي يعتبره الكثيرون أيقونة الترجمة من العربية إلى الصينية، والأكاديمي الصيني الأشهر في بحوث وترجمة الأعمال الأدبية العربية والذي شغل عدة مناصب أهمها الرئيس الشرفي لجمعية بحوث الأدب العربي في الصين. وعاش تشونغ جيكون، حياة حافلة بالإسهامات والإنجازات في مجال الدراسات العربية والترجمة، وحصل في عام 2018، على جائزة إنجاز العمر للترجمة والثقافة، التي تمثل أعلى وسام في الترجمة يمنح في الصين، حيث عكف الراحل خلال حياته على تدريس اللغة العربية وآدابها والترجمة بين اللغتين الصينية والعربية، وكان له إسهام جليل في تعميق التبادل الثقافي بين الصين والدول العربية. ووفقا لجريدة الشعب اليومية، فإن تشونغ جيكون، ولد في عام 1938، بمدينة داليان من مقاطعة لياونينغ، وفي عام 1961 تخرج في قسم اللغات الشرقية بجامعة بكين، ومكث في نفس الجامعة لتدريس اللغة العربية، وقد تتلمذ على يد الأستاذ ماجيان (محمد ماكين)، صاحب أسس تدريس اللغة العربية في الصين، كما كان الراحل أستاذ جامعي في اللغة العربية بجامعة بكين ومشرفا على طلبة الدكتوراه، وسبق له أن ترأس الجمعية الصينية لدراسات الأدب العربي، وشغل منصب نائب رئيس اللجنة الثقافية لجمعية الصداقة الصينية العربية وحصل على عضوية الشرف في اتحاد الكتاب العرب. ارتباطه بمصر مثلت مصر البداية الحقيقية لموهبة أيقونة الترجمة من العربية للصينية، فقد تسببت الأوضاع السياسية بالصين نهاية السبعينيات من القرن الماضي في خفوت حركة الترجمة والتبادلات الثقافية مع الدول العربية، وذلك قبل انطلاق عصر الإصلاح والانفتاح عام 1979، حتى أتيحت له الفرصة لاستكمال دراسته في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1978، لكي يندمج في المجتمع المصري وينهل من الثقافة العربية مستفيدًا من الثقل الثقافي الذي تتمتع به أرض الكنانة على المستوى العربي، فقام بترجمة رواية «في بيتنا رجل» للأديب إحسان عبد القدوس، و«مختار القصص القصيرة» للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة إلى الصينية. وخلال مدة إقامته في مصر، كون صداقات شخصية مع عدد من الأدباء المصريين، وكان أبرزهم صاحب نوبل الأديب العالمي نجيب محفوظ، الذي قال عنه تشونغ: «أرى شخصيا أن لا أديب في العالم يضاهيه من حيث الأفكار الفلسفية وأبعاد المحتويات العميقة وأساليب الإبداع الفني التي تعكسها أعمال الأديب الكبير». إعجابه بالشعب المصري وبعد عودته من مصر في عام 1980، عقد العزم على التضامن مع العرب طوال حياته بعدما شجعه على ذلك نجاح أبناء الشعب المصري في تأميم قناة السويس وكفاحهم ضدّ «العدوان الثلاثي»، ثم بدأت قمة التألق الأكاديمي للراحل تشونغ، فتحول من تدريس اللغة إلى بحوث وتعليم الأدب العربي، وعن ذلك قال: «إنني كنت أحاول أن أقرأ كل ما يتعلق بالأدب العربي من الكتب المحفوظة في مكتبة جامعة بكين ومكتبة العاصمة لجمع المعلومات البحثية والتعليمية بشكل منتظم، كما اخترت من روائعها لتقديمها إلى القراء الصينيين»، بما في ذلك «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران و«ألف ليلة وليلة»، و«مختارات الروايات القصيرة في مصر الحديثة». ومن أبرز ترجماته «مختارات الشعر العربي القديم» الذي ضم 431 قصيدة أو قطعة شعرية ل134 شاعرا عربيا، ولاقت الترجمة رواجًا كبيرًا وتقديرًا عاليًا في الأوساط الأكاديمية الصينية التي علقت عليها قائلة إنها «تعكس ملحمة كاملة للشعر العربي القديم ويمكننا من خلالها أن نستشعر جاذبية المجتمع العربي ونطلع على العالم الروحاني للعرب وظواهر مجتمعهم على مجرى التاريخ». بصمة الأزهر كان للأزهر الشريف، جامعًا وجامعة في مصر، تأثيرًا أيضًا في مسيرة الراحل تشونغ؛ حيث استفاد من خبرات أساتذته المسلمين الذين كانوا من خريجي جامعة الأزهر خلال ثلاثينيات القرن الماضي واعتبروا روّادا في تدريس اللغة العربية في الجامعات والمعاهد الصينية، إذ ساهموا في تحول تدريس لغة الضاد من المساجد إلى الجامعات منذ عام 1946، وعنهم يقول: «كان هؤلاء (الأزاهرة) يأخذون بعين الاعتبار جانبي النطق والنحو بل ويجيدونهما، وبالتالي ساهموا في إرساء أساس وطيد في المستوى المرتفع نسبيا لتعليم العربية بالصين»، على حد قوله. ونظرا لكونه أبرز الطلاب في ذلك العهد، فقد تم ترشيحه للانضمام إلى هيئة التدريس بقسم اللغة والثقافة العربية فور تخرجه في جامعة بكين عام 1961. وفي نفس العام، ترجم قصّة للكاتبة السورية الشهيرة ألفة إدليبي بعنوان «ماتت قريرة العين» حول نضال الشعب الجزائري ضد المستعمرين الفرنسيين وقد نشرت في مجلة «الآداب العالمية». «لو أتيح لي عمر آخر، فسوف أكرس حياتي مرة أخرى لأعمال بحوث وترجمة روائع الأدب العربي، بل وتدريسها للصينيين»، هكذا تحدث الراحل تشونغ جي كون في أخر لقاءاته بنبرة تنمّ عن مشاعر صادقة، وهي الكلمات التي أتبعها بأخرى خلال حفل تسلمه النسخة الرابعة من «جائزة الملك عبدالله العالمية للترجمة»، حيث قال: «هذه الجائزة ليست لي وحدي، وإنما تكريما لجميع الأكاديميين الصينيين الذين عملوا طويلا في مجال الترجمة العربية، وهذه الجائزة ستقدم المزيد من التشجيع والتحفيز للمترجمين الصينيين في المستقبل». وظل مرتبطًا بمصر والدول العربية حتى كان أول صيني ينال 3 جوائز من مصر والإمارات والسعودية، أولها جائزة استثنائية من قبل وزارة التعليم العالي المصرية في عام 2005، كما نال جائزة الشيخ زايد للكتاب «شخصية العام الثقافية»، وجائزة خادم الحرمين عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة لعام 2011، وهي الجوائز التي قال عنها إن «الأدب العربي بحر خضمّ يتعذر كشف مدى عمقه. فما تعلمته وما أجريته من بحوث لا يشكل سوى قطرة من مياهه». وأعرب الأستاذ الصيني عن حبه العميق واحترامه الفائق لمن قاموا بإنشاء الحضارة العربية الإسلامية ، قائلا إن «الشعب العربي مجتهد وشجاع ومحب للسلام شأنه شأن الشعب الصيني، وأوجه التماثل بين الشعبين أكثر من أوجه التباين.. لذا لابد لنا من التعلم والاستفادة من بعضنا البعض لتوسيع التعاون ذي المنفعة المتبادلة على الدوام». مؤلفاته ويذيع صيت تشونغ بين المثقفين العرب وعشاق الأدب الصينيين، حيث نال ألقابا وجوائز عدة في الصين والعالم العربي تقديرا وتكريما له على أعماله البحثية العميقة وترجماته الرائعة، ومن أشهر مؤلفاته :«تاريخ الأدب العربي المعاصر»، «ألف ليلة وليلة الأولى»، «تاريخ الأدب الشرقي» (مشارك)، وغيرها، أما في مجال الترجمة، فمن بين أهم أعماله: «المعلقات السبع»، «كلمات في صدري» لإحسان عبد القدوس، و«الصحراء جنتي» لسعيد صلاح، «مختارات من نثر جبران»، «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران، «مختارات قصصية لاحسان عبد القدوس»، «مختارات من الشعر العربي القديم»، «في البدء كانت الأنثى» لسعاد الصباح، «ألف ليلة وليلة»، «مختارات قصصية لميخائيل نعيمة»، الخ. كما لم يدخر الراحل تشونغ، جهدا في تشجيع التبادلات الثقافية الصينية- العربية؛ حيث وصف الحضارة الصينية والحضارة العربية الإسلامية ب«منارتين تضيئان العالم في القرون الوسطى»، مشيرا إلى أن «مؤثرات الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى قد أيقظت أوروبا ومهّدت لها سبيل نهضتها الحديثة. فلولاها لما كانت نهضة أوروبا الحديثة».