نعم مصر هي الرابح الأكبر في كل الأحوال.. فنيا وجماهيريا وتنظيميا وإعلاميًا وثقافيًا واقتصاديًا وسياحيًا وتسويقيًا.. هذه هي المكاسب التي تحققها أي دولة عند استضافة الأحداث الجماهيرية الكبيرة.. ودائمًا يبقى السؤال.. كيف سيتم استثمار مثل هذه المكاسب بعد انتهاء الحدث؟ وهذا هو التحدي الحقيقي في رأيي لبطولة الأمم الأفريقية بعيدًا عن نتائج المباريات، وبغض النظر عمن سيرفع كأس البطولة في النسخة التاريخية المقامة على أرض مصر للمرة الخامسة، والتي يتنافس فيها للمرة الأولى 24 منتخبًا بدلا من 16 منتخبًا، وهو ما يقارب من نصف منتخبات القارة. والآن وبعد أن انقضى نصف الحدث وشاهدت جماهير مصر وإفريقيا نصف مباريات البطولة في الأدوار الأولى، وتابع الجميع حفل الافتتاح بكل ما تضمنه من إبهار وإمتاع، ودخلت منافسات البطولة المنعطف الأهم والذي سيتواصل بنظام خروج المغلوب حتى المباراة النهائية، فإنني أعتقد من وجهة نظري أن مباريات الدور الأول كانت بمثابة استكمال للتصفيات إن جاز التعبير عطفًا على مشاركة عدد من المنتخبات الجديدة، فإن المراحل المتبقية من المنافسات ستشهد مواجهات تكسير عظام بين المنتخبات الأقوى، وستتوالى معها المفاجآت حتى نتعرف على ملامح الأربعة الكبار التي سيصعد من بينها البطل والوصيف إلى منصة التتويج. وبعد انتهاء المونديال الأسمر أتمنى أن ينتهي الحال بقرار شجاع بعودة الجماهير كاملة إلى الملاعب في الدوري المحلي اعتبارًا من الموسم الجديد، والاستمرار في العمل بنظام "هوية المشجعين"، أو ما يسمى ب"FAN ID" التي ستكشف جماهير المشاغبين والدخلاء غير المرغوب في حضورهم بالمدرجات.. وأتمنى أن ينعكسَ النجاح التنظيمي في تنظيم أكثر دقة وإتقان في المسابقات المحلية، بما يضاهي الدوريات الأوروبية، واحترام أكبر لجدول المباريات، والتخلص من آفة المؤجلات التي أفسدت علينا المنافسة بين الأندية. وإعلاميا.. أتمنى أن تفرز كأس الأمم الأفريقية إعلامًا جديدًا واعيًا محترفًا، بدون الوجوه القديمة التي استنفدت كل رصيدها عند الجماهير، تلك الوجوه التي اعتادت على الخلط بين العمل التنفيذي داخل اتحاد الكرة المصري والعمل في الفضائيات.. وثقافيا.. أنتظر أن تساهم كأس الأمم الأفريقية الحالية في تغيير المفاهيم عند المسئولين عن الرياضة بحثًا عن المزيد من الاحترافية بعيدًا عن ظاهرة "الصوت العالي" المثيرة للفتن والانقسامات، وتكريس ثقافة التعقل واحترام الآخر والانفتاح على الثقافات الأخرى والخروج من الإطار المحلي.. واقتصاديًا.. أنتظر أن تساهم كأس الأمم الأفريقية في إنعاش الاقتصاد المصري ولو جزئيا بالعائدات المالية المتوقعة من الإعلانات والتسويق والبث التليفزيوني، والتي تقدر مبدئيًا بما يزيد على 250 مليون جنيه، وهو ما يجب الإعلان عنه بعد انتهاء البطولة، وأتوقع أن تساهم هذه العائدات في تطوير اللعبة؛ لأن كرة القدم يجب أن تكون صناعة رابحة بالمفهوم الاستثماري. ولعل أحد أهم مكاسب تنظيم مصر للمونديال الأفريقي أنها تقدم للعالم رسالة مباشرة وواضحة تؤكد أن مصر بلد آمن ومستقر، رسالة ترد على كل الأكاذيب التي يروج لها البعض من المتشائمين.. ولابد أن يتم العمل بعد انتهاء البطولة بشكل مكثف على الترويج السياحي إلى أرض مصر بأفكار غير تقليدية، وكذلك التوجه بشكل خاص نحو الشعوب الأفريقية؛ لأن كرة القدم لم تعد مجرد لعبة ومباريات وفوز وخسارة؛ بل تخطت أهدافها إلى ما هو أهم؛ باعتبارها إحدى وسائل القوى الناعمة للدول في العصر الحديث.. ويبقى الأهم من المكاسب التي ستجنيها مصر من النسخة الحالية لكأس الأمم الأفريقية؛ كونها تقام في توقيت في غاية الحساسية للشعب المصري وللشباب بالتحديد؛ لكي تعيد إليهم الثقة في الذات وتعيد الوئام بين النسيج الاجتماعي للملايين من العائلات المصرية؛ لأن كرة القدم هي إحدى الوسائل المهمة التي تجمع الفرقاء وتوحد المتنازعين؛ لأن الكرة عند الكثير من الشعوب أهم من السياسة، وهي وسيلة الشعب الوحيدة للترفيه، وهي التي يلتف من حولها الجميع تحت علم واحد وشعار واحد.. إنها يا سادة كرة القدم التي ترسم السعادة على وجوه الفقراء والأغنياء على السواء، وهي التي توحد المتخاصمين وهي التي ينسى معها الجميع همومهم، وتخفف عنهم ضغوط الحياة، وتفجر بداخلهم طاقات الأمل والتفاؤل.. إنها كرة القدم وكأس أفريقيا التي يعشقها المصريون.