حين تكون فى حى الحسين وتسأل عن" قهوة الفيشاوى" فستجد "ألف من يدلك " على زقاق خان الخليلى الطويل، وعلى جانبيه بازارت ومحلات المصوغات النحاسية والفضية والتذكارات الفرعونية تحيط بها. وتحجب الرؤية من دخان الشيشة الكثيف، بينما الصخب والضجيج السمة الطاغية على مكان دارت بين جدرانه نقاشات ثقافية شكلت الأدب المصري الحديث. وفي أحد أركانه قبع نجيب محفوظ لأعوام جالسا يتحاور مع زوار المقهى وعمالها يدقق النظر في طبائعهم وينقلها شخوصا حية على الورق في رواياته. إنها "قهوة الفيشاوى ".. أهم وأعرق مقهى فى قاهرة المعز، أنشأه الحاج على فهمى الفيشاوى ويرجع تاريخه لأكثر من 200 عام. واستطاع أن يشتري المتاجر المجاورة له، وحولها إلى مقهى كبير ذي ثلاث حجرات وصلت مساحته إلى 400 متر بعد أن كان بوفيها صغيرا. أول غرف المقهى غرفة «الباسفور» وهي مبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، ومليئة بالتحف والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، وأدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق، في رمضان، وكبار ضيوفه من العرب والأجانب، وثانية الغرف أطلق عليها «التحفة» وهي مزينة بالصدف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك والكنب المكسو بالجلد الأخضر وهي خاصة بالفنانين وآخر حجرة هى «القافية»، وكانت الأحياء الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين تتبارى كل خميس من شهر رمضان في القافية، عن طريق شخص يمثلها من سماته خفة الظل وسرعة البديهة وطلاقة اللسان والسخرية، فكان يبدأ ثم يرد عليه زعيم آخر يمثل حيا آخر، ويستمران في المنازلة الكلامية، حتى يسكت أحدهما الآخر. وفي الستينيات من القرن الماضي قرر محافظ القاهرة تقليص مساحته حتى وصلت الآن إلى نحو 150 مترا فقط، بسبب توسيع الحسين فمات الحاج أحمد صاحب المقهى من الحسرة. استمد المقهى شهرته العالمية من روايات نجيب محفوظ التى خلدته، حيث توحد معه منذ نعومة أظافره وعندما كان صغيرا انتقل من حى الجمالية الشعبى إلى حى العباسية الراقى، ولكنه لم يقتنع بوجوده فى حى العباسية وعاد به الحنين إلى حى الجمالية مرة أخرى ، لينجح فى إقناع زملائه من سكان حيه الجديد بالذهاب إلى الجمالية، والجلوس على "قهوة الفيشاوى " ليكون عادته الأسبوعية المستديمة، ومقرا دائما لجلساته الثقافية مع الحرافيش، التى استمرت لأكثر من ثلاثة عقود، إلى أن بدأ يصاب بضعف السمع ونقل مقر جلسته إلى أحد المراكب السياحيه مجبرًا. عمال المقهى مشغولون بتقديم المشروبات، خاصة الشاى الأحمر أو الأخضر، المقدم في إبريق معدني صغير تفوح منه رائحة النعناع، يمكن أن تراهم يعملون مثل خلية النحل من خلال المرايات الكبيرة التى تعكس الأنوار البيضاء وتزين حوائط المقهى، الذى لم تتغير ملامحه وحوائطه الصفراء من جراء تدخين الشيشة التى تعد من أهم ملامحه. لكن الزمان والشخوص تغيرت، فزوار المقهى أغلبهم من طلاب المدارس والجامعات أو فسحة للمخطوبين باعتبارها رحلة ترفيهية أو مجموعة من السائحين يلتقطون الصور للمقهى الشرقى المزين بالصدف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك. فهو مكان به رائحة عبق التاريخ وهيبته أو قلة قليلة من مريدي نجيب محفوظ الذين يتحسسون رائحته ويحيطهم الباعة الجائلون، ويعرضون بضائعهم من بيع الإكسسوارات النسائية، الهدايا التذكارية، مسابح، رسم الحناء و"أنت جالسة "، حتى قراءة الكف باللغة الإنجليزية. تملأ المكان ضوضاء موسيقى أغنية "ألف ليلة وليلة" بتوزيع جديد تتخلله الطبول، بدلا من صوت الراديو الذى كان يقف مؤشره دائما على صوت أم كلثوم الشادى، الذى طالما ملأ المكان بالطرب الأصيل وحفلات السمر الثقافية والفنية ليوسف إدريس، إحسان عبد القدوس وكمال الشناوى، وجلسات الغناء على العود فى الليل حتى الساعات الأولى من الفجر، لأهم مطربي مصر مثل فريد الأطرش، شادية وعبد الحليم حافظ. وفي ليالي رمضان كان المنشدون يروون السير الشعبية والأمجاد والبطولات، عقب انتهاء التسابيح من المنابر بأصوات كبار المشايخ وحضور فاروق خصيصا وحفلات تدخين الشيشة. هناك قابلت الحاج أحمد فهمي، "صاحب المقهى" الذى سمى بنفس الاسم تيمنا بجده لوالدته صاحب المقهى، الذي أصبح مشروع حياته فهو يرافق جده لوالدته منذ كان صغيرا لتعود ذاكرته إلى الوراء ما يقارب ال 50 عاما مرت على وجوده "بقهوة الفيشاوى". وفى زاوية جانبية بدأ عم أحمد فى سرد ذكريات نجيب والفيشاوي واعتياده على مشاهدته بالقهوة منذ بدأ التردد عليها مع جده. حيث قال " كان نجيب محفوظ يأتى كل جمعة بعد الصلاة حتى تكون القهوة خالية نسبيا، ويتحدث مع عمال القهوة، ويتفحص الشخصيات التى تمر بالقهوة، كان أكثر تواضعا مع عمال المقهى وكل البائعين الذين يمرون عليها، لبيع الأشياء، ويتفحص وجوههم وأفعالهم بدقة، محاولا الوصول لأعماق الرجل البسيط وأدق تفاصيل حياته وعاداته". استطرد عم أحمد قائلا: "حين أًصبحت شابا يافعا كان لايزال من رواد القهوة، وكان يسعد جدا حين يعلم أننى قرأت إحدى رواياته وأبدأ فى مناقشته فى تفاصيل بعض شخصيات الرواية وعلى العكس مما كان يتوقع يستمع لى ويجيب عن أسئلتى بصدر رحب، ولكن ما علق بذهني دائما قوله إنه يطمح دائما إلي نقل الخصال الجيدة في الشخصية المصرية". استكمل حديثه موضحا "أن نجيب محفوظ استمد العديد من شخصيات رواياته من رواد المقهى وجيرانه، فمثلا شخصية رواية الثلاثية (قصر الشوق وبين القصرين والسكرية) مستوحاة من عطار بخان الخليلى اسمه هو نفس اسم بطل الرواية "أحمد عبد الجواد"، وكانت هذه شخصية الرجل المصرى خلال عشرينيات القرن الماضى بشكل عام". وأردف قائلا إن الحال تغيرت الآن عما كان سائدا من قبل، فكانت "القهوة" مقرا دائما لكبار السن والمقام والعائلات. وأصبحت الآن مقرا لطلاب المدراس والجامعات والسائحين، إلا أن أسعار المقهى لم تتغير، ومازالت تناسب المواطن المصرى الشعبى، فسعر أغلى مشروب لا يتعدى العشرة جنيهات. وعندما سألت بعض الشباب عن سبب مجيئهم إلى المقهى، وهل يمثل ارتباط نجيب محفوظ بالقهوة لهم شيئا؟ قالوا "إن القهوة مشهورة من زمان، لكن دلوقتى محدش من المشاهير بيقعد عليها، إحنا بنيجى القهوة عشان عاوزين نقعد فى جو شرقى ووسط السياح بدل القهاوى التقليدي، وأنت ممكن تستنى دورك عشان تلقى مكانا تقعدين فيه فى الشارع مش جوه القهوة". وعلى العكس، حيث سيطرت الأجواء الثقافية على بعض المجموعات السياحية حيث كانوا يتناقشون حول الاستشراق فى مصر. مضت "فيشاوي نجيب محفوظ" بغير رجعة، لم يبق منها سوى ذكرى لهواة التصوير، وصور المشاهير التى يتحوطها عبق التاريخ، بعد أن مات نجيب محفوظ، ومات كل من عاصروه من عمال المقهى، وسقطت شلة الحرافيش، واحدا وراء آخر.. ولم يبق من طبقة المثقفين من يحافظ على الجلوس بمقهى الفيشاوي، سوى الأديب جمال الغيطاني، ومعه ًبعض المثقفين من خارج مصر ليعرفهم بحارات مصر الشعبية الأصيلة.