جلست بينهم وأنا أصغرهم، إذ كنت قررت أن نستحدث ناديًا لكبار السنّ في المسجد، ضمن فعاليات تنشيط العمل الاجتماعي لكل شرائح المجتمع. كانوا تسعة استجابوا لهذا النشاط الجديد وكلهم يتهامسون ماذا سيقترح علينا الشيخ أن نقوم به في هذه الفعاليّة؟ فبادرتهم بالسؤال: لم لا تحدثونا عن هجرتكم إلى أمريكا ودواعيها وتفاصيلها؟ فمن تلك الرحلة كانت اللبنة الأولى لصرح بناه كل واحد منكم من أسرة امتدت أولادًا وبنات وأحفادًا، وإنجازات عمل لكم جعلت منكم اليوم أناسًا مرتاحين ماديًا، ثم أجيالًا كانت من ورائكم تحمل اسمكم وتفخر به. وقضيت معهم ساعتين وأنا أستمع إلى أحاديث هجرتهم والتي كانت كلها في فلك حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم": (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا). (رواه البخاري في الأدب المفرد). فهجرات الناس تُختصر في هذه المعاني الثلاثة، وعندها تذكرت حال النبي "صلى الله عليه وسلم" يترك موطنه وأهله طلبًا للأمن الذي منعته إياه قريش، لكنه لما وصل المدينة لم يكتفِ بحصول الأمن، وإنما سعى ليعلم الناس القراءة والكتابة، وبنى المسجد ليحفظ دين الناس، وأنشأ سوقًا تعاملت فيه الناس بالعدل والإنصاف؛ فانقلبت الهجرة من رحلة بلاء وأذى إلى خير عميم وجيل جديد حمل الإسلام إلى أصقاع الأرض كلها. واليوم ونحن نرى الكثير من أبناء الإسلام أتوا بلاد شرق وغرب لنفس الأسباب التي هاجر بسببها عليه الصلاة والسلام، قد حولوا وجودهم إلى عنصر خير وبناء في مجتمعاتهم التي سكنوها. لا أريد أن أقف على أطلال الماضي عندما كان شباب الغرب يهاجرون طلبًا للسلامة بين المسلمين، ولا رحلات العلم إلى غرناطة وبغداد، إنما أريد من استحضار ذكرى ولادة عام هجري جديد أن أرى فسحة الأمل بأوطاننا التي تركناها، أنها قادرة على استيعاب هذه الكوادر من أبنائها وبناتها التي نجحت في بلاد الغرب، بأن تجد أمكنة تخدم فيها أوطانها وبلادها الأم. أدعو الله وأنا أهنئ الأمة الإسلامية والعربية بعامها الهجري 1440 أن يكتب لنا الخير في بلادنا وأطاننا، وأن يجعل لنا نصيبا في بناء الإنسان والمجتمع، آمين. كاتب المقال: رئيس تجمع الأئمة التابع للمجلس الإسلامي للمؤسسات الإسلامية بشيكاغو