تعلمت أول درس في التسامح من المهاتما غاندي الزعيم الروحي للهند (1869 - 1948) حين قرأت له حوارًا صحفيًا في طفولتي فسر فيه قدرته على توحيد خطاب كافة ممثلي الطوائف الهندية خلفه في معركة تحرير بلاده من الاحتلال البريطاني فقد سأله الصحفي: "كيف أقنعت كل هؤلاء بالسير معك برغم اختلاف طوائفهم الدينية؟ فرد قائلا: "أقنعتهم أن الجنة في ميدان كبير وكل منا يأتي من طريق، لكنه يصل إلى نفس الميدان في نهاية المطاف؟! وفي "ريمنيني" -إحدى المدن الإيطالية والتي عقد بها لقاء للصداقة بين الشعوب- تجسدت إجابة غاندي في أول مشهد رأيته في المنتدى؛ حيث كان علي المشاركة في صلاة يشارك فيها ممثلون عن طوائف وأديان مختلفة، وقفنا جميعًا في دائرة واحدة وتوجهنا إلى "رب واحد" واكتشفنا قبل أن ننتهي أننا كنا نريد شيئًا واحدًا هو "السلام"؛ ربما اختلفت وسائلنا لكن الهدف كان واحدًا. وهذا المشهد أعاد لي تجربة مماثلة في مصر خلال أحداث يناير 2011 حين كنا نقف في الكنيسة مسلمين ومسيحيين ونقيم صلوات مشتركة ونقف: "يا رب بارك بلادي" كنا ولا نزال ننشد السلام ونشعر بالخوف في غيابه. لا أحد بإمكانه اليوم أن يشكك في حاجتنا إلى السلام، وإلى الطمأنينة التي يمكن عبرها أن نستعيد المعاني المفقودة في حياتنا التي تواصل فقد جدواها مع توالي الأزمات. ولا أحد يشكك كذلك في حاجتنا إلى الحوار فنحن "جوعى للحوار" كما عبر الكاتب المسرحي العربي الراحل سعد الله ونوس، في واحدة من نصوصه التي أكد فيها أيضًا "أننا متمسكون بالأمل". وهذا الجوع إلى الحوار هو ما يفسر دائمًا رغبة البشر في التواصل والحوار داخل المؤتمرات والمنتديات بحثا عن "أطواق النجاة". وفي "ريميني" أدركت أن المهمة الأصعب التي ينجزها المنتدى هي "رعاية الأمل" في النجاة، فهو ليس منتدى عاديًا، لكنه يبني اختلافه من دقة التنظيم، فلا شيء زائد على الحاجة، والأهم توافر بيئة صحية للحوار؛ تقوم على احترام التنوع الخلاق وتنظر إلى التباين العرقي والديني والجغرافي؛ باعتباره أداة للاختلاف وليس للخلاف والفارق كبير؛ فالاختلاف يشير دائمًا لوجود فرص حوار قابلة للنمو، بينما الخلاف يقضي عليها تمامًا. وتبقي الميزة الأساسية التي لمستها في "ريميني" أنه يتيح فرصًا لبناء معرفة تكاملية بين مجالات ومعارف علمية وروحية متنوعة، لا تضع الدين في خصومة مع العلم؛ حيث لا يزال البعض يعتقد في جدوى هذه الخصومة، على الرغم من "الحداثة" يفترض أنها أنجزت هذه المهمة بامتياز. وفي "ريميني" وحدها يمكن أن تجد ندوة عن البرمجة اللغوية، وبعدها ندوة عن علوم اللسانيات، وبعدها مباشرة ندوة أخرى لرجل دين يستعمل في خطابه مفردات الناقد الألماني الشهير "تيودور فون أدرنو"؛ يفسر فيها مسرحية فاوست لشاعر الألمانية الأشهر "جوته" ولا تجد كمستمع تناقضًا بين خطاب نقدي كان ثوريًا في مجاله، ورأي آخر يصدر من رجل دين يزعم البعض أنه يمثل مؤسسة دينية محافظة. ولهذا لم تكن مشاركتي في "ريميني" مسألة عابرة؛ وإنما كانت مناسبة لتغيير القناعات، وفرصة لإعادة النظر في أفكار كثيرة منها مكانة الدين في المجتمعات المعاصرة والإيمان مجددًا بأن الدين ليس هو المشكلة، وإنما هو جزء من الحل كما علمني جوليان كارون في حواري معه. ومنه تعلمت أيضًا صعوبة محاولات عزل الدين عن المجال العام؛ فالدين ما زال يمثل ركيزة من ركائز الهوية التي أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط بفضل تنامي الحركات والأصولية، وإنما مع انتقال الدين من مشروع تحرر يعلي من قيمة الفرد إلى مشروع استحواذي تطبقه الرأسمالية. و اليوم في مجتمعاتنا نتحدث كثيرًا عن مخاطر "تسليع الدين"، ومخاطر استعماله كأداة للمواجهة، وليس أداة للحوار، وهذا هو التحدي الرئيسي في منتدى "ريميني" الذي يراهن منظموه على تطوير المؤسسة الدينية، وإعادة تقديمها كمؤسسة للمجتمع المدني، وهذا جزء من مهمة أكبر عنوانها "تجديد المسيحية" الغربية التي تواجه تحديات أخرى على رأسها تنامي تيارات أصولية داخلها تبدو كرد على تزايد أعداد المهاجرين إلى أوروبا، وبالتالي فإن مهمة هذا التجديد خلق خطاب جديد يحمي قيم التنوع، ويدعم قيم العدالة الاجتماعية لمواجهة قيم العنصرية والاستحواذ. كشف لي منتدى "ريميني" كيف أن (المسيحية) تتجدد أمام واقعها ولا تنفصل عنه، وتستثمر الآفاق التي خلقها وجود البابا فرنسيس عبر دبلوماسية جديدة هي (الدبلوماسية الروحية). وتأكدت في "ريميني" أن المنتديات ليست أحداثًا عابرة، وإنما هي فرصة لاكتشاف تجارب في العمل بين الناس؛ فحركة مثل (شراكة وتحرر) المنظمة للمنتدى أصحبت حركة اجتماعية بالمعنى الحقيقي، واستطاعت أن ترسخ وجودها كحركة مدنية خالصة، حافظت على مسافة تضمن استقلالها ك"بنك لإنتاج الأفكار"، وفي الوقت نفسه راهنت على قيمة العمل التطوعي؛ الذي يتجلي في التنظيم المنضبط والمبتكر، والذي يقف وراءه مئات المتطوعين، ولا يمكن بلوغه إلا من خلال الإيمان بقيمة التجربة ودورها في التغيير. أما الدرس الأهم - الذي ظل معي وجعلني مصرًا على أن أكون سفيرًا ل"ريميني" في بلادي - فهو الرغبة في أن أكون جزءًا من كيان مهمته البحث عن الجمال، وهي المهمة الأسمى لأي إنسان، وكما قال جوليان كارون: "بالجمال فقط يكتمل الإيمان".