في الوقت الذي استطاعت فيه الحركات والتنظيمات المتشددة والمتطرفة - وعلى رأسها تنظيم "داعش" - أن يشوهوا الإسلام بأفعالهم الشريرة؛ كان هناك سفراء للإسلام الحق؛ تحلوا بالأخلاق الحميدة، والطهارة وحسن المظهر؛ فهؤلاء هم سفراء الإسلام بحق الذين سنتعرف على واحد منهم في كل يوم من أيام رمضان، وسفيرنا اليوم هو الشيخ العالم رضاء الدين فخر الدين الحافظ لتراث المسلمين في روسيا. من هو رضاء الدين فخر الدينوف؟ هو معلم وكاتب ومفكر وأديب ومؤرخ ورجل دين ومفتي النظارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا، ولد في عام 1859 في قرية كيچوچاتوفو في مقاطعة "سامارا" بجمهورية تتارستان الروسية "تتاريا سابقًا" لعائلة متدينة؛ حيث كان أبوه إمامًا، عندما بلغ السابعة من عمره أرسله والده للدراسة في المدرسة الدينية بمسجد تشيستوبول، ليحفظ القرآن ويدرس الشريعة الإسلامية على يد الشيخ ذاكر إيشان كمالوف، وفي عام 1869 انتقل فخر الدينوف للتعلم في مدرسة قرية نيجني شلچيلي، فأجاد العربية والفارسية والتركية والروسية. بعد تخرجه بعد تخرجه في المدرسة الإسلامية تابع فخر الدين نشاطاته التعليمية بتدريس التعاليم الدينية والأدب والتاريخ، وفي الوقت نفسه كان يعكف على كتابة المقالات في صحيفة "ترجمان" التي أسسها المفكر المسلم إسماعيل جسبرينسكي، علاوة على أنه كان يجمع وينظم المصادر التاريخية والكتب المتعلقة بتاريخ وأدب شعب التتار، وفي عام 1887 تم نشر أول كتاب له باللغة العربية بعنوان "التصريف"، وفي العام نفسه اجتاز بنجاح اختبار الإمامة، ليعود عام 1889 إلى قريته ليعمل إمامًا ومدرسًا، ويذيع صيت المعلم الشاب الموهوب في جميع أنحاء الإقليم التتري، ويترك انطباعًا لا يُمحى من نفوس طلابه والناس. ظل رضاء الدين أثناء تلك الفترة يطلع على الكتب والمخطوطات، فتأثر كثيرًا بمخطوطات شيخ الإسلام شهاب الدين المرجاني، بعدما هاجم أحد الفلاسفة أشهر كتاب للمرجاني وهو "ناظورة الحق"، فقرأها وقارنها، ومنذ ذلك اليوم نظر لجميع الأعمال المنشورة للمرجاني باهتمام كبير؛ فكعف على دراستها وقراءتها ونسخها وتنقيحها، فنسخ 10 مجلدات من المخطوطات من بينها نسخة مكتوبة بخط اليد من المجلد الثاني من كتاب "مستفاد الأخبار في أحوال قازان وبلغار". الشيخ رضاء الدين فخر الدينوف في مكتبه تعيينه قاضي القانون المحمدي في يناير عام 1891، دعاه الشيخ محمديار سلطانوف ليكون عضوًا وقاضيًا بالجمعية الدينية للقانون المحمدي في أوفا بجمهورية بشكورتستان، وهي الجهة التي تدير شئون المسلمين في الجزء الأوروبي من الإمبراطورية الروسية، فانتقل "فخر" بأسرته للعيش هناك، ولكنه لم يكتف بهذا العمل، بل زاد عليه حفظ وترتيب محفوظات الجمعية الدينية وتنظيمها وتصنيفها، وجمع الأبحاث، وتأليف الكتب، فبلغ تراثه الأدبي حوالي 50 كتابًا، و40 مجلدًا من المخطوطات أثرت مركز أوفا العلمي، حتى عُرف رضاء الدين فخر الدينوف في تاريخ الفكر والثقافة التترية بأنه موسوعة للمعرفة العلمية والتاريخ والأدب والثقافة والفلسفة، وعالم لاهوتي يدعو إلى التفكّر. الشيخ رضاء الدين فخر الدينوف يتوسط مجلس التحرير في مجلة "شورى" رئيس تحرير مجلة "شورى" في عام 1906 بدأ "رضاء الدين" الكتابة في جريدة تتار الليبرالية "فاكيت" وتولى فيها منصب مساعد رئيس التحرير، وكان يملك المهارة الأسلوبية؛ حيث تميزت كتابته بالقوة والإبداع ووضوح العرض وسهولة الأسلوب، بعدها بعامين قرر "فخر الدين" ترك وظيفته في الإدارة الدينية لفترة من الوقت، ليشغل كرسي رئيس تحرير مجلة "شورى" في أورينبورج ليكتب فيها 179 مقالة عن السيرة الذاتية لشخصيات بارزة في الثقافة الإسلامية، وعلى صفحاتها دافع عن الحقوق التاريخية لبلغاريا، والقبيلة الذهبية، وخانية قازان، والمسلمين الأتراك في منطقة الفولجا، حتى أصبح اسمه معروفًا على نطاق واسع في آسيا الوسطى وكازاخستان، كما أنه أقام علاقات وثيقة مع شخصيات عامة وعلماء من مختلف البلدان؛ حيث جرى تعاون وثيق بينه وبين المصلح الديني الشهير الشيخ جمال الدين الأفغاني، ومع الإمام محمد عبده في مصر والعديد من العلماء الأجانب. انتخابه مفتيًا لمسلمي روسيا وسيبيريا في عام 1917، بعد قيام الثورة البلشفية، شارك رضاء الدين فخر الدين في أعمال الجمعية التأسيسية الثالثة للبشكير، وبناء على ذلك تم انتخابه عضوًا في برلمان باشكورتستان، وبعدها يبدأ التضييق على كل الأديان، فيأخذ فخر الدين على عاتقه الدفاع عن حق كل إنسان مسلم أو غير مسلم في ممارسة شعائر دينه، فتعلو أسهم الشيخ رضاء الدين ، فيتم انتخابه في عام 1922 مفتيًا ورئيسًا للمجلس الروحي المركزي لمسلمي روسيا وسيبيريا، وفي عام 1926 شارك في المؤتمر الإسلامي العالمي الأول كرئيس لوفد المسلمين السوفييت، وأدى بعدها فريضة الحج. حملات مصادرة المساجد في الاتحاد السوفيتي وبدأت في نهاية العشرينيات حملة سحب البنايات الدينية من الإداراتِ؛ فمثلًا بقي حتى عام (1931) 980 مسجدًا فقط من مجموع 2223 مسجدًا كانت في أراضي تتاريا قبل عام 1917، وبقي في الأراضي البشكيرية 924 مسجدًا من 2085 مسجدًا كانت موجودة في عام 1922 وصل عددها في عام 1944 الى 12 مسجدا فقط؛ مما دفع رئيس النظارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا المفتي رضا الدين فخر الدينوف لتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ميخائيل كالينين عبر فيها عن أسفه لحملة الاضطهاد التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون، ليستقيل بعدها مع أعضاء آخرين في الإدارة المركزية من أجل لفت انتباه العالم كله إلى اضطهاد السلطات الإسلام والمسلمين في الاتحاد السوفيتي. وفاته عام 1936 عملت السلطات على تضييق الخناق على المسلمين وبدأت حملة من الاعتقالات الجماعية لقيادة الإدارة الروحية، وحاصرت الشيخ رضاء الدين فخر الدين، حتى كتب عن هذه المرحلة في حياته المؤرخ خايرولين أن العالم المفكر عاش في السنوات الأخيرة من حياته ظروفًا مادية صعبة، لينهي على إثرها مسيرته الإبداعية والعملية في منصب مفتي روسيا وسيبيريا، ويلبي نداء ربه في عام 1936، وقد ذكرت الروايات تجمّع آلاف المسلمين عند معرفة وفاة الشيخ رضاء الدين فخر الدينوف، ليدفنوه سراً في جنح الليل بمقبرة إسلامية في مدينة أوفا.