كثيرًا ما تعترينا الهموم والأحزان، بسبب زوال النعم وفَقْد ما كنا نرجو بقاءه، كالأهل والأموال، ونحوهما، والإنسان في مثل هذه الحال يحتاج إلى ما يُضمد جراحه، ويُداوي أحزانه. وهناك كتاب للإمام تاج الدين السبكي ت 771 ه، وموضوعه يتضمن سؤالًا ورد وطُلبت الإجابة عنه، وهو سؤال كلنا في أمس الحاجة إلى معرفة الإجابة عنه، وإليكم السؤال وإجابته في اختصار شدي: هل من طريق لمن سلُب نعمة دينية أو دنيوية، إذا سلكها عادت إليه، ورُدَّت عليه؟ فكان الجواب: طريقه أن يعرف: من أين أتى فيتوبُ منه، ويعترف بما في المحنة بذلك من الفوائد فيرضى بها، ثم يتضرَّع إلى اللَّه تعالى بالطريق التي تذكرها. هذه ثلاثة أمور هي طريقه التي يحصل بمجموعها دواءُ مرضه ويعقُبها زوال علَّته، بعضها مرتَّب على بعض لا يتقدَّم ثالثها على ثانيها، ولا ثانيها على أولها. أما أولها؛ فالمسلم الفطن لابد وأن يكون بصيرًا بأفعاله، فإذا أخطأ ولم يتب، عَلِمَ أن عقوبة الذنب آتية لا محالة، إلا أن يعفو الله عن فاعلها، وعلى هذا فليعلم العبد، أنه إذا ذهبت منه نعمة أن هذا بسبب ذنب من ذنوبه، وهذا يدعوه إلى أن يرجع إلى ربه ويتوب وينيب. وأما الثاني؛ فليعلم أنه ما من محنة إلا ويجعل الله فيها المنحة، إما بسبب الصبر على المكروه، أو انتظار الفرج، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". وأما الثالث؛ فالعبد في كل أحواله لابد وأن يتعلق بالله تبارك وتعالى، في السراء والضراء؛ فالضر إذا نزل بالعبد، أو زالت منه نعمة، وبعد أن يحقق الأمرين السابقين؛ عليه أن يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عزوجل: "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم". فإذا جاء البأس والضراء فعلى العبد أن يتضرع إلى الله تعالى لرفعه. واعلم أنها لم تزل عنك إِلَّا لإِخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها، وهو الشكر؛ فإنَّ كل نعمة لا تُشكر جديرة بالزوال. ومن كلامهم: النعمة إذا شُكِرت قرَّت، وإذا كُفِرت فرَّت. وقيل: لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاءَ لها إذا كفرت. وقيل النعمة وحْشيّة فاشْكلوها بالشكر. والأدلّة على أنَّ كفران النعم يوجب انزواءها كثيرة، فلا نطيلُ بذكرها، فكتاب اللَّه وسنَّة رسوله - صلى اللَّه عليه وسلم - دالَّان على أنَّ كفران النعمة يؤذن بزوالها، وشكرها يقضي بزيادتها. وذكرَ العارفون أنَّ الرب قطع بالمزيد مع الشكر، ولم يستثن فيه، فقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} سورة إبراهيم الآية 7. فإن قلت: فما الشكر؟ قلت: قد شرحه العارفون. وبيَّنوا حقيقته. وأنا أختصر لك القول فيه، وآتي بما يقرِّب من فهمك؛ فأقول: الشكر يكون بالقلب واللسان والأفعال. هذه أركانه، الثلاثة: أما القلب - وهو أعظمها - فالمراد منه أن تعلم وتعتقد أن الله هو الذي منحك النعمة لا أحد سواه شاركه، إذ الكل مربوب فقير إلى الله، والله هو الغني الحميد، فكل نعمة إنما هي منه سبحانه وتعالى، ولكنه قدر لوصولها إليك أسبابًا، فلا يجوز بحال أن تتعلق بالسبب وتغفل عن المسبب سبحانه وتعالى. وأمَّا اللسان فالمراد منه حمد اللَّه تعالى عليها والتحدُّث بها بقوله تعالى: {واشكروا لي ولا تكفرون} سورة البقرة: 152. وقال تعالى: {وأَمَّا بِنِعْمَةِ ربِّكِ فَحَدِّثْ}. سورة الشرح: 11. فيتحدَّث بها لا لرياء وسمعة وخيلاء، بل للثَّناء على الرب تباركَ وتعالى. وأمَّا الأفعال فالمُراد منها امتثال أوامر المنعِم واجتناب نواهيه. وهذا يخصّ كل نعمة بما يليقُ بها، فلكلِّ نعمة شكر يخصُّها. والضابط أن تستعمل نِعم اللَّه تعالى في طاعته وتتوقَّى من الاستعانة بها على معصيته. فليس من شكر النعمة أن تهملها وتشكر على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت، فمن عَدَلَ عنها إلى نوعٍ آخر من الشكر فقد قصَّر، وترك الأهم. وإنَّما الرشيد من جمعَ بين الأمرين، فإن كان لا بدَّ من التفرقة فالأنسب استعمال كل نعمة فيما خلقت له، وهذا يتَّضح بأمثلة كثيرة جدًا، فخذ هذه الأمثلة، وعليك أن تنظر فيما وراء ذلك مما يكون على شاكلتهم. فمن شكر نعمة العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم وتغضّهما عن كل قبيح، إلى غير ذلك من أحكام النظر، فإن أنتَ أخذت تصلِّي كل ليلة ركعتين على شكر نعمة العينين؛ وأنت مع ذلك تستعملهما في النظر إلى المحرَّم، فلستَ بشاكرٍ هذه النعمة حقَّ شكرها. ومن شكر نعمة الأذنين ألَّا تسمع حرامًا، وأن تستر كل عيب تسمعه؛ فإن أنت تصدَّقت بدرهمين شكرًا للَّه تعالى على نعمة الأذنين وهتكتَ كل قبيح سمعته، وأصغيت إلى كلِّ حرامٍ وَعَيته فلستَ من الشاكرين. ومن شكر نعمة اللسان ألا يتحرك فيما حرم الله تعالى، وأن تستعمله فيما يعود عليك وعلى الناس بالخير، فإن أنت قمت بأداء الصلوات، فرضها ونفلها، ثم أنت مع ذلك لا تتورع عن الغيبة ولا النميمة والسب واللعن فلست من الشاكرين. المصدر: مُعيد النِعم ومُبيد النِقم، تاج الدين السبكي.