انطلق خبر موت حسن أبو العيون سريعًا بعد الظهر . لف البلد كلها في ساعة: دخل الدور والدكاكين والمقاهي والغرز وماكينة الطحين وعصارة القصب، ومجلس القرية. كنس الناس في هذه الأماكن بمكنسة الفضول إلى ساحة الجامع، حيث وقع الرجل مقطوع الأنفاس! انزعج التراب وقام من سابع نومة على الدهس والدبدبة والدق. واضطر أن يطير بعيدًا حتى تهدأ الأقدام . بدأ يرقب مع الناس تلك الحادثة. طنين مستمر يملأ المكان، فيه صراخ ونواح ونباح وأوامر. الجثة ملفوفة بملاءة سرير بيضاء. على مقربة منها تستلقي حقيبة الميت المنتفخة بالفلوس وإيصالات النور، والمنضدة المقلوبة التي يستعيرها من المقهى. آخر مرة قابلته انتزعت منه ابتسامة بالعافية. كان يلهث آتيا من داير الناحية. قلت له ممازحًا: - إذا أردت أن تكون محصلًا في الشنافره يا أبا على، فلتكن أعضاؤك من حجارة و أعصابك من حديد وسوائله من ماء النار. أعطاني الابتسامة المرهقة، خبط كفيه متعجبًا من العميل الذي ذهب إليه يحصل الفاتورة، فقال له بغلاسة: ابعث صاحب النور يأخذ حقه! جلس معي أمام الدار يستنشق هواء الخلاء ويحدثني عن حيل الأهالي لخداع العدادات بوضع أكياس الملح فوقها! أضحك من آخر حدودي، ويستأذن ليستعير المنضدة من المقهى ويدخل في جدال لا ينتهي. وصلت عربة الإسعاف وحملت الجسد الملفوف في ملاءة سرير بيضاء. بدأت حركة رجوع بطيئة صاخبة إلى المقرات الثابتة . هبط التراب ليكمل نومه. - كيف مات؟ - علمي علمك. تقاليد الشنافره: لسانك حصانك! أيامه بيننا كانت ولا تزال قطعة عذاب كبيرة. ماطلوه، شتموه، حملوه مسئولية انقطاع التيار وسقوط الأسلاك فوق حمار فج النور، وشحوب الضوء كما السهراية أو اللمبة الشيخ علي، والمبالغة في تقدير الاستهلاك وغياب الكشاف. يقول في يأس و أدب: - أنا محصل فقط - كلكم لصوص - شكرًا لما تراكمت الإيصالات، قام متذرعًا بالصبر ودار على البيوت ليوفر عليهم مشوار الجامع. اصطادوه في الحارات وفوق المصاطب: - خمسة جنيهات يا مفترى! إنها لمبة واحدة في المندرة. - اتق الله فينا، هل نملك مطبعة فلوس؟ - الشهر وراء أخيه، أنبيع هدومنا؟ يجرى كالفأر الهارب من لمة قطط: - أنا محصل. محصل فقط. - ابعث صاحب النور يأخذ حقه! دخل الجامع. غسل وجهه. تمضمض، ثم نادى في مكبر الصوت: - آخر موعد لدفع إيصالات النور غدًا، بعدها سيتم فصل التيار. يا أهل الشنافره الكرام، عليكم دفع المتأخرات فورًا، وقد أعذر من أنذر. أعادني إلى الواقع حوار بين اثنين: - كان معي بالأمس و... - هل تألم؟ أم سقط مباشرة؟ - ربك هو العالم. تقاليد الشنافرة مرة أخرى. حاول رؤساؤه ذات مرة تخفيف الضغط عنه، أرسلوا لجنة وجنودًا يفصلون التيار. تجمهرت البلدة وكادت تقع كارثة فانسحبوا. قال المتجمعون في المقاهي والمصاطب والعصارة وماكينة الطحين: - لو فصلوا التيار، سنعيد ربط الأسلاك بالكماشة. ناموا مستمتعين بالمباهج بينما يتقلب حسن على نار ويستعد لسماع تقريع المدير. أذاعوا الآن أن الجنازة ستشيع بعد صلاة المغرب من قريته. الشنافرة كلها تشيعه. طوال التشييع أراه أمامي، يسير بين الناس بحقيبته المنتفخة. عندما تأكدت الشنافره أن الميت دفن، وليس ثمة اشتباه. طردت كل تحفظ أو تقاليد أو شعور بالذنب، حان الوقت ليحكى من رأى لحظات الفقيد الأخيرة. كان جالسًا في مكانه حين أقبلت أرملة فؤاد الباجورى وقالت بصوت أسيان: - ألم تجد غير الأيتام تطالبهم بهذا المبلغ الكبير؟ صمت وتشاغل بفتح الحقيبة، عادت تقول وهى تستعد للبكاء: - ماذا نفعل إذا قطعتم النور؟ كيف يعيش الأولاد ويذاكرون؟ - يا ستى سنقطع على الكل. - فوضت أمري لله. - ليس ذنبي. - أنت سبب المصائب! - أنا محصل فقط. - كلكم لصوص. ربنا ينتقم منكم. ظلت تقذفه برصاصها وتبكي، ثم ترفع يديها نحو السماء. رأسه بين يديه. يشعر بها تغلي غليانًا حقيقيًا. قام محني الظهر، اختلط نشيج المرأة بصراخها: - لم يبق إلا أن أبيع نفسي! قفز في مكانه عدة مرات، ثم مال وارتطم رأسه بالمنضدة، رمى الحقيبة، وأخذ يعوي: - أنا محصل، محصل فقط. وارتمى بجوار أدواته المبعثرة.