"الإنسان كائن مسكون بالتبرير"، هكذا كان عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو يجادل فكر الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر في محاولات تفسيره للوجود الاجتماعي للإنسان، وهو يرى أنه لا أحد يمكنه أن يعلن، لا أمام الآخرين أو أمام نفسه، أنه يمكن أن يستغني عن التبرير. هذه المقولات تبادرت إلى ذهني عقب الجدل الذي أثارته الأستاذة فريدة الشوباشي عن توجهات الشيخ الشعراوي الوطنية وهو أحد رموز مصر الوطنية والدينية. في الواقع برغم الفكر المستنير الذي تتمتع به الكاتبة الشوباشي والذي نلمسه في عدد من القضايا خاصة التي تتعلق بحقوق المرأة والإسلام المعتدل إلا أن هجومها على الشيخ الشعراوي لم يكن له مبرر.. حتى المبرر الذي قدمته في برنامج "الشارع المصري" على قناة العاصمة لم يكن مبررا مقنعا: "الذي يسجد لله شكرًا على هزيمة مصر فإنه بالضرورة يسجد لله شكرا على نصر إسرائيل". توصيف الأستاذة فريدة الشوباشي للشيخ الشعراوي بأنه فرح لهزيمتنا في حرب 67، غير موضوعي بالمرة؛ لأنها أخذت جزءا من حديثه فقط، وهو ما يشوه صورة الشيخ الجليل في أذهان الأجيال الجديدة المشوشة أصلا ثقافيا وحضاريا وعلميا ودينيا. وبالرجوع للحديث الذي أشارت إليه الأستاذة فريدة وهو حوار الإعلامي الكبير طارق حبيب مع الشيخ الشعراوي في برنامج "من الألف للياء" في حرف التاء، بداية من الدقيقة 13 ، يروي الشعراوي تبريره أيضا أنه خلال وجوده بالجزائر رئيسا لبعثة الأزهر هناك، والتي قام خلالها بتعريب مناهج التعليم الجزائرية من الفرنسية، وقعت نكسة 1967 وصلى لله ركعتي شكر بمنطق شكر الله في السراء والضراء وهو الموقف الذي تسبب له في صدام مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وقال في حواره مفسرا ذلك: "بأنه حمد الله أن مصر لم تنتصر وهي في أحضان الشيوعية فلم يفتن المصريون في دينهم". كان يمكن توجيه النقد للشيخ الشعراوي مثلا كونه ضد الفكر الشيوعي، لكن ذلك لم ولن ينتقص من وطنيته، فهو أيضا ذكر في الحوار التليفزيوني ذاته أنه سجد لله شكرا عقب نصر أكتوبر المجيد. التوجه السياسي الإستراتيجي للرموز الوطنية يمكن أن يكون قيد المناقشة، لأنه عادة ما يقترن بأفعال وممارسات توضح هذا التوجه، لكن أن نضع الشيخ الشعراوي في كفة واحدة مع رموز جماعة الإخوان الإرهابية! أعتقد أنه أمر مجحف في حق هذا العالم الجليل الذي بسط معاني القرآن الكريم وشكل رمزا للإسلام المعتدل في العالم الإسلامي ككل، بإيمانه بمبدأ أن الدين يسر وليس عسرا. لقد كان الشيخ الشعراوي-رحمه الله- عاشقا للشعر وله العديد من القصائد وكان يرى فيه فنون الرسم والتصوير والموسيقى كلها مجتمعة. ويستشهد به أحيانا في تفسير الآيات ومن أقواله الجميلة التي تنم عن الوسطية:" إذا رأيت في غيرك جمالا.. فأعلم بأن داخلك جميل". على أية حال، يبدو جليا أن تاريخنا الجمعي الآن عرضة لهجمة شرسة؛ لأن الجدل حول رموز تاريخية ووطنية واجتماعية على أشده. ومؤخرا كان الدكتور يوسف زيدان يتحدث عن شخصيات ورموز كصلاح الدين الأيوبي وأحمد عرابي .. وغيرهما مبددا كل ما عرفناه عنهم. إن هذا التشويه إنما يطال رموزا يمثلون أرصدة رأس المال الرمزي لنا كمصريين وللعروبة أيضا، هذا النوع من رأس المال هو الذي يبرر الوجود الاجتماعي لنا ويحقق لنا جزءا من الرضا عنه. فلطالما كانت رموزنا الثقافية والفكرية والوطنية والعلمية والدينية حافزا لنا في السير قدما والفخر أمام العالم بما نمتلكه من عقول وأسماء بارزة. وهنا أشيد بمشروع "عاش هنا" للجهاز القومي للتنسيق الحضاري الذي يذكرنا برموز عاشت بيننا عبر لافتات تزين أماكن إقامتهم، يقوم الشباب بتصويرها والفخر بها عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الاعتزاز بمصريتنا ورموزنا في كافة المجالات، وهي خطوة رائعة ينبغي أن تكلل بإقامة متاحف لكل العظماء الذين شكلوا جزءا من ذاكرتنا الجمعية. الحقيقة أن الحديث عن وقائع تاريخية بعينها وسرد تفاصيل خفية عنها أو معلومات مغلوطة عنها بالأدلة أمر مطلوب، بل وواجب على كل ذي علم. هنا إثارة الجدل ستعم بالفائدة على الجميع، بينما ما يحدث الآن عبر الفضائيات والبرامج الحوارية حالة من اللهاث حول "الفرقعة" الإعلامية ضد أشخاص لن يتمكنوا من الرد على مذماتهم، وهو أمر خطير؛ حيث سيتطوع أفراد كثر من مشارب شتى وتوجهات معلومة وغير معلومة، يتسلحون بسلطة المجتمع في مواجهة تلك المحاولات في محاولة لخلط الأوراق واختطاف اللحظة الزمنية الراهنة بكل تقلباتها؛ لتبرير هيمنة رمزية جديدة، تقوم على أطلال "البنك المركزي لرأس مالنا الرمزي" وفرض هوية غريبة عنا وبالتالي الوقوع في براثن الفكر المتشدد والإرهاب الأسود. لذا رأى أن تشريع قانون لتجريم إهانة الرموز أمر غاية في الأهمية وأكثر إلحاحا من أي وقت مضى، في ظل عالم تسكنه "ممارسات تآمرية" على الهويات العربية بشكل واضح وبالأخص الهوية المصرية.