جاء وفد من مقر المحافظة يبشر بردم الترعة. لم يكن سهلًا أن نتصور فراغًا غير الماء بين نصفي القرية. الخريطة التي ولدنا في قلبها صارت الآن مهددة بالفوضى. رد رئيس القرية شاكرًا الوفد باسم عشرة آلاف نسمة، ومادحًا أولي الأمر لاهتمامهم بالبسطاء. حدقنا طويلًا إلى الظاهرة القديمة الموشكة على التلاشي إلى الأبد. ساد اضطراب مؤلف من قلق وحزن ولا مبالاة ورغبة طفولية في الفرجة. استيقظت قصة زينب وما يحكى عن لغز اختفاء جثتها رغم مسح قاع الترعة آلاف المرات. تواترت بشأن غرقها اجتهادات شتى أهمها: أصحاب الأحوال قالوا إن الأعماق جذبتها. أهل الانبساط جعلوا غرقها إثر شمة نشوق زائدة. أولاد الحرام صوروه انتحارًا لإخفاء فضيحة. بقيت الحادثة ثاوية في مكان ما من الجوف، مع السمك والجن والجيف والمفقودات المنزلية. وبقيت بطلتها جاهزة يستخرجونها للعظة أو التشفي أو التسلية أو إخافة الأطفال. في جلسة دعا إليها مركز الشباب، عارض المتعلمون الردم كدأبهم مع ما تقدمه الحكومة من مقترحات. قال فوزي الشرقاوي، موظف بالوحدة المحلية: لسنا جهلة، يمكننا أن ندرك خطورة البلهارسيا التي جعلت الأعزاء ينزفون مع البول، ويصارعون الاستسقاء واليرقان، لكن كم نسبة المصابين؟ تلقف الحديث عباس الأهتم بالإدارة الزراعية: فيما أرى، لا تزيد نسبة الضحايا عن واحد في المائة. ماذا تمثل في علم الإحصاء؟ أحس رئيس القرية بالملل، طلب من السكرتير أن يتوقف عن التسجيل، قال: كيف تعترضون؟ الردم مظهر حضاري وصحي أيضًا. قاطعه أحمد رمضان ، فلاح رسب في الثانوية العامة: سيادة الرئيس، نحن في عصر القمر الصناعي والحاسب الآلي، لم يعد أحد يستحم في الترعة أو يستعمل ماءها، اتركوها كمظهر جمالي. عباس قال مساعدًا: لا بد أن الحكومة تريد منح الأرض لأحد المحاسيب! استرد فوزي الخيط متجاهلًا رئيس القرية: النساء طول الوقت يغسلن منها الملابس والأوعية، انظروا إلى وجناتهن، تجدونها متوردة يكاد الدم يبك منها. نظروا إليه في ريبة، تصاعدت ابتسامات عجيبة. أدرك أنه ورط نفسه وأكد ما يشاع عن تلصصه عليهن. قال يلغي المشاعر الوليدة: وها هم أولاء الرجال الضخام يملأون الشوارع، أليسوا جميعًا قد اغتسلوا وعاموا في الترعة؟ انتزع رئيس القرية الكلام: الردم تقرر، واعتراضكم سفسطة. أراد أحمد رمضان أن يدلي بدلوه، لكن صديقنا سعداوي وصل يلهث ورفع يده طالبًا الكلمة مشيرًا لأحمد بالصمت. كنت أنا ساعتها مشغولًا عنهم بالتفكير في مزايا الترعة، كما يتذكر الناس محاسن موتاهم، ورغم موافقتي على الردم استمرت تترى على ذهني أفضالها: علمتنا –صغارًا- العوم والصيد، والخوف والحكي والاتزان في قوارب من طسوت الغسيل. أما الكبار، فسهلت لهم الغسيل والوضوء وتربية البط و الإوز وتخفيف القيظ في صيف أبيب، طباخ العنب والتين. أخرجت أيضًا على شاطئيها معالم حميمة من التوت والكافور والصفصاف، تشغي بالطيور التي تسبح ربها. خطف سعداوي الجلسة التي امتلكت طعم محاورات سقراط، قال في جد واهتمام إن زينب جاءته في المنام بالصوت فقط، وطلبت انتشال جثتها حتى تستريح وتتوقف عن إشعال الحرائق وقتل البهائم وإغراق الأطفال. صاح رئيس القرية: هذاهو الكلام. أحس الجميع برجفة إلى حد أن فوزي قال للرئيس: لا أقصد التعطيل، وأرى أن تحول إلى حديقة. إبراهيم الونش، صبي النجار، قال ونحن ننصرف: لا تستهينوا بى أيها المثقفون. الترعة مليئة بالجيف، أنا بعون الله أميز هيكل الإنسان من بين ألف هيكل. في أول أيام الردم، خرجت أوان من الصاج والنحاس والألومنيوم وملاعق ملتوية الأيدي وسكاكين صدئة، أكواب وقوارير مكسورة وبراطيش ومزق وهدوم. أخيرًا ظهرت بعض العظام: سلسلة ظهر، قصبة رجل. الله أكبر، أسمعونا الفاتحة. آن الأوان لتستريح زينب وتريحنا! قرفص الونش وبربش ثم قال زائحًا الهواء بيده: كلب! جاءت زينب لسعداوي في الحلم، بالصوت أيضًا، قالت: ستجدونى في اليوم الأخير. ظل الناس يقفون مع العمال مسكونين بالشغف. عندما تضاف مساحة من اليابس يهرعون نحوها بالطوب والأكواخ والأفران البلدية ليثبتوا ملكيتهم لها. في آخر أيام الردم لم يذهب أحد إلى الحقول أو المكاتب أو الجامع أو المدارس. الأعجب أن أغرابًا من القرى المجاورة ومراسلي الصحف جاءوا يشاركون في إخراج زينب. العيون تبرق. رفعوا هيكلًا محدبًا. ارتفعت الأصوات وتشابكت. قرفص الونش. تعلق الناس بشفتيه. بربش وأزاح الهواء ثم أزاحهم وقال: حمارة! في الفجر جاءت زينب لسعداوي، بالصوت والصورة، جميلة في العقد الرابع. أخبرته أنها سخرت منا طول الوقت، وأنها ستواصل عبثها، وكل ما قيل عنها محض هراء. لما سألها عن الحقيقة أكدت له إنها ستخبره عنها في حلم قادم!