(1) خامرت الابتسامة العريضة وجه السعداوي لما سلمه ساعي البريد رسالة من ابنه حسين الغائب عن القرية وعن مصر كلها منذ عشر سنوات حينما سافر إلي فرنسا وتحولت خطواته إلي قفزات سريعة ومتلاحقة, راح يجوب انحاء القرية فرحا يخبر كل من يقابله بعودة ابنه علي طائرة الخامسة مساء الجمعة القادم.. رفرفت طيور التهاني الوافدة من افواه اهل القرية لتحط علي رأس السعداوي, الذي بدا منتشيا علي غير عادته منذ اليوم الذي سافر فيه ابنه.. ادار المفتاح بباب الحجرة الأولي علي يمين الداخل للبيت.. حجرة ابنه حسين, التي اغلقها السعداوي بنفسه منذ اليوم الذي سافر فيه.. ازال الخيوط العنكبوتية التي خيمت علي الإطار الخشبي لصورة ابنه الذي ينتظر عودته.. أعاد ترتيب الحجرة من جديد. والله زمان ياحسين قالها وهو يمسح قطرات العرق السابحة علي وجهه. (2) مع إشراقة شمس يوم الجمعة.. كان السعداوي قد حلق ذقنه.. وارتدي جلبابه الجديد, وانتعل بلغته الجديدة, راح يخبر كل من يقابله ان ابنه سيعود اليوم علي طائرة الخامسة مساء, ولما انتهت صلاة الجمعة اذاع السعداوي من خلال ميكروفون المسجد خبر عودة ابنه حسين من فرنسا علي طائرة الخامسة مساء اليوم.. وانطلق تجاه الطريق الزراعي مبتسما ومنتشيا وكلما سأله احد المارة عن وجهته فيخبره انه ذاهب لاستقبال ابنه.. ولما صافح الهواء وجهه جعله أكثر نشوة, جذبته بحور التفكير في ابنه وكيف صار حاله بعد سنوات الغياب التي طالت, وعما إذا كان سيعوضه عن شقاء السنوات العجاف التي قضاها بين المعاناة وشظف العيش بعدما باع القراريط الثلاثة التي هي كل ما ملكه من حطام الدنيا ليحقق رغبة ابنه في السفر, توقف الاتوبيس في القاهرة فاستقل السعداوي سيارة أجرة تنقله إلي المطار وبينما هو في طريقه كان قد اخبر السائق انه ذاهب لاستقبال ابنه في مطار. وهناك.. دس السعداوي جسده النحيل بين جموع الواقفين في صالة الانتظار, جاء صوت الرجل من خلال مكبرات الصوت يعلن عن وصول الطائرة القادمة من فرنسا بعد خمس دقائق.. اوشك قلب السعداوي ان ينخلع من مكانه.. احس ان الدقائق القليلة المتبقية علي وصول الطائرة كأنها دهور. (3) لما هبطت الطائرة ونزل جميع ركابها كان السعداوي وحده ينتظر, فلم يبق في صالة الانتظار سوي بعض موظفي المطار وبعض العمال الذين يحملون حقائب العائدين من السفر.. تجمد وجه السعداوي, انطلق تجاه موظف المطار يسأله عن سبب تأخر ابنه وعدم مجيئه. * لو سمحت يا استاذ. * نعم * ابني حسين قال إنه راجع علي طيارة الساعة خمسة من فرنسا. * وبعدين * وبعدين مجاش.. متعرفش ليه..؟ * اسمه إيه ياسيدي..؟ * اسمه.. حسين السعداوي محمد * راح الرجل يبحث عن هذا الاسم بين كشوف العائدين علي متن الطائرة التي هبطت منذ نصف ساعة تقريبا. * حسين السعدواي.. لا مش موجود. * انتاب السعداوي القلق وسأله. * متعرفش تأخر ليه يا أستاذ..؟ * يمكن ما لحقش الطيارة.. انتظره علي طيارة سبعة الصبح. * انزوي السعداوي في ركن بعيد يكابد آلام يأسه, قادته قدماه إلي الموظف ثانية * يا أستاذ.. * أنت تاني..!! * ابني قال إنه جاي علي طيارة الساعة خمسة.. مش هيه دي برضه طيارة الساعة خمسة اللي جايه من فرنسا. * ايوه ياسيدي.. وحياة ربنا هيه.. خلاص. * مصدقك يا استاذ.. بس قصدي اقول يعني ان ال.. قاطعة الموظف غاضبا. * ابعد عني دلوقت.. خليني أشوف شغلي.. الله يكرمك. (4) كثرت المواعيد, وكثرت الطائرات التي تهبط إلي أرض المطار, وكلما هبطت طائرة قفز السعداوي ناحيتها يرقب الوجوه, والخطوات والحقائب.. عشرون طائرة قد هبطت إلي ارض المطار.. عشرون ألف دمعة فرت من عيني السعداوي, ومائة ألف امل يحدوه ومليون خوف يحدق به. نسي السعداوي بيته وقريته وأهلها.. ولم يعد يشغله الا شيء واحد, هو أن يرقب الطائرات لحظة هبوطها, ولم يعد يعنيه سوي تفحص وجوه العائدين من السفر عله يجد ابنه وسطهم.. ولما أحس بعدم قدرته علي الرؤية حمل لافته كتب عليها اسم ابنه وكلما هبطت طائرة انخرط وسط العائدين يقلب بناظريه في وجوههم اختلطت الحروف بماء المطر وظل السعداوي ينتظر رغم تعاقب الاسابيع والشهور.. ظل ينتظر رغم انحناء ظهره, اشتعال رأسه بالشيب ضمور جسمه, تمزق جلبابه.. كان ينتظر رغم كونه صار فاقد البصر, حافي القدمين.. ظل واقفا في أحد اركان المطار حاملا لافتته الممزقة بين يديه, حتي ظن الجميع انه احد معالم المطار. محمد الحديدي/ الشرقية